مرحبا بك في مملكة الورد

مرحبا بكم في مملكة الورد

صديقكم المهدي عثمان

قصور الساف / تونس



الثلاثاء، 7 يونيو 2011

تحية لغرب البلاد

السلام على أرضكم
على عرضكم
على طينكم
على خبزكم
على ملحكم
على الصبّار كلّما تجذّر
... تجذّرنا
كلّما علا صبْر هنا
هوى صبر هنـــــــــــــــاك
بين هنا و هنــــــــــــــــــــــاك
ما يجعل الطير تبكي من الوجع
* * *
السلام على أصابعكم
على أظافركم
تحفر في الصلد
بأعين من صديد
قل ما تريد ...
فالعين لا تبصر إلا دمعتها
والدمع لا يشدو وإن عدّوا مفاخره
متفاخر فخِر .. مستفعل فعل
افعل ...
قال ربّكم " اقرأ "
لا تقرؤوا التاريخ من سروال الخليفة
ولا ترسموا شكل الخرائط بالحذاء
افعل في الطين
يأتيك الطين ذليلا
تبني بالطين رياحا
وتهدمْ عروشا
تمرّ الطير بأخبارنا ..
من غربنا ...
إلى شرق الإمامة والخلافة
ترفع الأعلام مزهوّة
ويُؤتى السلام إليكم
إلى أرضكم
إلى عرضكم
إلى خبزكم
إلى ملحكم
ما أملح هذا الجهد
لكن العزم أشدّ رسوخا

الجمعة، 29 أبريل 2011

نظام التصويت على القائمات: طريق إلى المجهول السياسي



جريدة الدولية / العدد الثامن ـ الخميس ೨೮ أفريل 2011




أثناء الجدل الذي أنتجته التحولات السياسية في تونس بعد 14 جانفي، لاح بصيص من أمل تمخّض عن تكوين الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي. هذه الهيئة التي صاحب تكوينها الكثير من التشكيك والتخوين، خاصة على مستوى التمثيلية ومستوى سيطرة الأحزاب السياسية على مكوناتها. مع ذلك حصل تواطؤ متبادل بين الشارع السياسي التونسي من جهة، والهيئة من جهة أخرى، مفاده أن هذه الأخيرة وإن لم يحصل حولها الإجماع التام، إلا أنها مثلت خطوة هامة نحو تحقيق أهداف الثورة التونسية، وذلك باعتبارها الخطوة الأهم نحو انتخاب المجلس التأسيسي الذي كان أهمّ مطلب شعبيّ منذ الأسابيع الأولى للثورة.
غير أن التململ الحاصل حول تمثيليتها، مهّد لهيمنة حزبية وفق اعتبارات ضيّقة و مصلحية، يطغى عليها ذهنية المزايدات ومصلحة الأحزاب، عبر إغراق تركيبة الهيئة بعناصر تخدم هذا التوجه. ذلك أنه تم الترفيع في عدد أعضاء الهيئة من 71 إلى 130 عضوا.
وإن مرّ هذا الإغراق دون إثارة تذكر عدا بعض الأصوات الشاذة، إلا أنّ ما أقرته الهيئة يوم 24 أفريل بالمصادقة على المرسوم الخاص بتنظيم انتخابات المجلس التأسيسي، أثار الكثير من اللغط والحبر والجدل السياسي، وصل حدّ التخوين والتكفير والاحتقار.
وقد ذهب أحميدة النيفر وهو يعلن استقالته من الهيئة إلى التأكيد على " هيمنة جوّ حزبيّ استقطابي موجه يغلب عليه التفكير والعمل وفق اعتبارات ضيّقة واحتكام إلى المزايدات" وهذا كان جليا بعد الإعلان عن نظام الاقتراع على القائمات، الذي كشف أهميّة وخطورة العمل الذي قامت به الأحزاب لضرب المستقلين. بتعلّة أنّ نظام الاقتراع على الأشخاص من شأنه أن يدعم حضور المال السياسي، وبالتالي عودة أنصار حزب التجمع الدستوري الديمقراطي من النوافذ بعد أن خرجوا من الأبواب، هذا من ناحية.
و من ناحية أخرى يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أنّ التصويت على القوائم يقلل من نسبة الأصوات التي من المتوقع أن يظفر بها حزب النهضة، كما يدعي بعض " التقدميين".
إلا أن هذا الخيار على أهمية المخاوف التي طرحها مؤيدوه، لا يجعلنا نقتنع أنّ نظام التصويت على القوائم أكثر ديمقراطية وتمثيلية من نظام التصويت على الأفراد. رغم ما يتبجحون به من مصطلحات " المناصفة" و " التداول " و" أكبر البقايا"، التي تدافع عن النسب المهمشة من الذين لم يقع تمثيلهم.
إن المتأمل في هذا النظام، يقف عند الكثير من المزالق، لعلّ أهمها:
ـ خدمة الأحزاب لا غير، وإقصاء الطاقات المستقلة ذات الكفاءة، والتي لا يمكنها أن تتنظم في قائمات، باعتبار أنّ رئيس القائمة ـ دائما ـ له أوفر الحظوظ في الوصول إلى كرسيّ المجلس التأسيسي. وحتى لما يدعي مدّعي أنّ هذا النظام الانتخابي يخدم الأحزاب الصغرى، فتلك مصيبة أخرى. مصيبة تجعل مصير البلاد والعباد في يد تنظيمات لا تتوفر على مرجعيات سياسية، ولا تاريخ نضالي لها. كما أن وصولها إلى المجلس قد يكون مجرّد صدفة، باعتبار أنّ المواطن التونسي ـ وأمام جهله بهذه الأحزاب ورموزها ـ قد يجد نفسه مضطرا إلى أن يختار أحدى القوائم من باب المشاركة في العملية الانتخابية لا غير.
ـ من ناحية ثانية، يساهم هذا النظام الانتخابي في حشو أسماء في قوائم لتجميل المشهد السياسي، ذلك أن أغلب القائمات لا يمكن أن تظفر بأكثر من مقعدين. و هذا يجعل من الأحزاب تعمد إلى طرح قوائم تعول على اسمين أو ثلاثة أسماء في أحسن الأحوال وأهمها رئيس القائمة. أما بقية الأسماء فهي ديكورا سياسيا.
ـ إن فكرة المناصفة والتداول ـ على أهميتها ـ تعود بنا إلى عهد الوصاية على المرأة باعتبارها كائنا ناقصا تعوّل على الرجل لدفعها نحو المشاركة في الشأن العام. كما أن هذا الخيار يدعم دونيّة المرأة، ذلك أننا ـ وإذا استثنينا الحزب الديمقراطي التقدمي إذا شاءت أمينته العامة الترشح ـ سنجد كل المترشحات في مرتبة ثانية و رابعة و سادسة على القوائم، تكريسا لنظام باطرياركي لا زال حاضرا في ذهنية السياسي التونسي.
وحتى لو جاء اسمها على رأس القائمة، فإنّ الوضع داخل الأحزاب يجعل من تلك الفكرة مجرد نكتة. فالمرأة ليست ممثلة في المكاتب السياسية للأحزاب، وحتى المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل لا توجد امرأة داخل تركيبته، بل المثير للسخرية أن المكلف بالمرأة العاملة هو السيد المنصف اليعقوبي.
و حتى إن وجدت المرأة في القائمات الانتخابية، فإن وجودها سيكون مجرّد حشو وديكور سياسي.
إن من راهن على هذا الخيار للإبقاء على مكتسبات المرأة ضدّ الحركات الظلامية، سيكتشف أن تلك الحركات ستكون ممثلة بنسبة نساء أكثر من الأحزاب التقدمية، لأن تلك الأحزاب مرّت منذ الأيام الأولى للثورة نحو العمل الميداني والاستقطاب، فيما عولت الأحزاب الأخرى على التنظير والخلافات الإيديولوجية والمهاترات التي لا مجال لها الآن.
ـ إن نظام التصويت على القائمات سيجعل منها ( القائمات ) وكرا لاختفاء المشبوهين الذين ـ ربما ـ قد يمرون إلى المجلس. لهذا نفهم الآن المزايدات التي تدور حول التجمعيين من غير المسؤولين الحزبيين، لضمهم لهذا الحزب أو ذاك. وكلنا دهش لموقف حزب النهضة من إمكانية استيعاب أولئك التجمعيين.
حيث أعلن شيخ الحركة السيد راشد الغنوشي لقناة الجزيرة القطرية، أنه لا مانع لحركته من استقطاب التجمعيين، ونفس الشيء صرح به عضو المكتب التنفيذي للحزب الديمقراطي التقدمي أحمد بو عزي، وربما يتبنى نفس الفكرة عديد الأحزاب الأخرى، لما للتجمع المنحل من ثقل كان يمثله.
ـ إن نظام التصويت على القائمات من الخطورة بحيث قد يجعل الفعل الانتخابي مجرّد حركة لا معنى لها عند أغلب الشعب التونسي الذي لا يعرف لهذه الأحزاب تاريخا أو برنامجا، عدا عدد من الأحزاب لا يتعدى عدد أصابع اليد الواحدة. ومن ادّعى عكس ذلك، فإنه يقصد الطبقة المسيّسة . و حتّى لو ذهبنا مع بعض الأحزاب إلى تأجيل الانتخابات، فإنّ تأجيلها ثلاثة أو أربعة أشهر، لا يمكّن المواطن من فهم هذه الأحزاب والإطلاع على برامجها، وحتى على مكتبها السياسي.
ـ إنّ نظام التصويت على القائمات سيجعل من الممكن وصول أحزاب ظلامية ورجعية إلى المجلس التأسيسي بحجم يضع المشهد السياسي التونسي في مأزق يصعب الخروج منه، وقد يقودنا هذا المأزق إلى مشهد دموي على غرار ما حدث في ديمقراطيات ناشئة ـ حينها ـ مثل الجزائر .
فحزب كالنهضة ـ مثلا ـ وهو أهم الأحزاب السياسية الفاعلة على الساحة الآن ـ من حيث الاستقطاب والحضور ـ قد يلجأ إلى الترشح عبر القائمات وعبر الأشخاص. ذلك أنه من الممكن أن تنحو هذا المنحى في عديد الجهات، في حين أنه من المستبعد ـ بل من المستحيل ـ أن يترشح حزب بقائمة حزبية وأخرى مستقلة.
إنّ الإصرار على نظام التصويت على القائمات، يجعلنا نتساءل عن المساومات والمزايدات التي حصلت في الهيئة العليا. حتى و إن كان الاتفاق على ذلك المرسوم بالإجماع. و حتى وإن كرر أكثر من عضو أن دور الهيئة استشاريّ لا غير. فلماذا لا يقع عرض هذا المشروع على الاستفتاء لفك الاعتراف وكسب مزيدا من الشرعية؟
أما ما يثار حول شروط التصويت وطرقها، فهي مسألة مفرغة من محتواها. و يمكن بأمر أن تتشكّل هيئة وقتية لتنظيم الاستفتاء. و إن كانت هذه الهيئة الوقتيّة " غير شرعيّة "، فإنّ ما سينتج عن الاستفتاء سيكون شرعيا.
ثم لماذا قبلنا بالهيئة العليا وقد تشكلت عن طريق مرسوم رئاسيّ، ولا نقبل هيئة انتخابات، لتنظيم الاستفتاء بمرسوم مماثل؟
وهذا التناقض ما أشار إليه أحميدة النيفر بقوله: " أدعو الحكومة المؤقتة إلى استشارة شعبية وتشاور مع لجنة حكماء مستقلين لإقرار خيار أنسب لمستقبل البلاد يقيها الوقوع من جديد في براثن دكتاتورية أطراف ترفض التعدد و تمقت الاختلاف "

إن الفصل 16 من مرسوم انتخابات المجلس التأسيسي، لم يرق إلى مستوى طموحات الشعب التونسي، الذي بقي مذهولا وغير مستوعب لطريقة الاقتراع على القائمات، خاصة لما تعمد أحد البرامج التلفزية إلى توضيح طرق احتساب الأصوات التي تستدعي من المواطن التونسي أن يكونا ملما إلماما كاملا ودقيقا بمجريات الأحداث و بالخارطة السياسية التونسية التي ما زالت إلى الآن ضبابية وغير مكتملة.
إذن ننتظر 24 جويلية لتكتشف هل قادتْنا الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي إلى الأمان أم إلى الهاوية؟


مؤسسات دور الشباب : من حضن بن علي إلى دهشة الثورة




لا يختلف اثنان في أنّ أكثر القطاعات التي كانت حضنا دافئا لأفكار التجمع اللادستوري اللاديمقراطي، هي مؤسسات دور الشباب. المؤسسات التي ـ باسم الشباب ـ وظّفت أحسن توظيف من قبل السلطة ومليشياتها وإطاراتها، ابتداء من رئيس لجنة حيّ وصولا إلى أعلى إطار في السلطة أو في الحزب الحاكم.
فمن منطلق ديماغوجي، يوحي بأنّ بن علي يبني سياسة الدولة على الدور الفاعل للشباب ومتطلباته ورغباته، عبر الاستشارات .. باعتبار أنّ هذه الفئة هي القاعدة الأعرض والأكثر أهمية.
فكانت توظف مؤسسات دور الشباب ـ وبتواطؤ من قبل بعض إطارات الشباب ابتداء من المنشط، وصولا إلى الوزير ـ توظف للتصفيق و التهليل والمباركة و المناشدة.. و لعبت دورا فاعلا في إقصاء الفكر المختلف يمينا ويسارا، حفاظا على الأمن العام والوحدة الوطنية. ومن الطرائف أن مؤسسات دور الشباب اتهمت بعدم القيام بدورها أثناء أحداث سليمان سنة 2006
وكانت كل اللافتات والتظاهرات والشعارات البنفسجية ترحب بالمسؤول وتبارك توجهات فخامته، أمام ابتسامات المندوبين الجهويين وأتباعهم من بعض التجمعيين. ويدعم ذلك ما ينظر له سلك التفقد من أفكار ما أنزل الله بها من سلطان، حول المرجعية الفكرية للقطاع على رأسها خطابات الرئيس المخلوع.( رئيس أجهل من حذائه) يجتمع بنا المتفقدون متباهين بولائهم ونظرياتهم التي لا يأتيها الباطل من أمامها و لا من خلفها.
أما العمل النقابي فحدّث ولا حرج، فهو من الموبقات. ومن العبث الطفولي الذي لا داعي له. فالقطاع يعتبر الابن المدلل للسلطة. ولكنه في الواقع لا أهمية له ولا مكانة في الخارطة الثقافية والشبابية للدولة.
فرغم أنّ هذه المؤسسات هيّ المنفذ الأول وربما الأوحد ـ في بعض الأحيان ـ للبرامج والمرجعيات التجمعية، ابتداء بذكرى السابع من نوفمبر " المجيدة" وصولا إلى الاحتفال بيوم القابلة، مرورا على إرسال برقيات الولاء والمناشدة... حتى بمناسبة بناء ملعب رياضيّ.
فرغم ذلك إلا أنّ هذه المؤسسات تُصنّف في آخر اهتمامات السلطة وفي كل خطابات وزير الشباب والرياضة.
أما الآن وقد حدثت ثورة 14 جانفي، فإن قناعتي زادت رسوخا ودعّمت ما كنت أعتقده. حيث اتّضح أنّ مؤسسات دور الشباب لا علاقة لها بالشباب أصلا. وأنّ ما كانت تفعله ليس شيئا آخر غير تجميل المشهد ببرامج أقل ما يقال عنها أنها بدائية ولم تواكب التحولات المعلوماتية والثقافية. ومازالت تقتصر على أنشطة الرسم على الحرير والبلور وكرة الطاولة وكرة القدم والأمسيات الراقصة التي كرست الرداءة.
لهذا أصابت إطارات الشباب صدمة .. بل دهشة حضارية (ليست دهشة هيدجير ) نتيجة عدم الوعي بالتحولات والجهل الذي كان يحيط بالقطاع من بعض المنشطين والمديرين والمندوبين والمتفقدين وحتى الوزراء.
هذه الصدمة، أبقتْ هذا القطاع على دهشته، ولم يتحرك قيد أنملة.
كلّ القطاعات الحية انتفضت مع الانتفاضة، واحتجت وصرخت واعتصمت وأضربت .. إلا القطاعات الميّتة، ومنها هذا القطاع الذي كان من المفروض أن يكون أول المنتفضين، لأنه يحمل أسم الشباب ويتوجه بنتاجه إليه.
فالمنتبه لهذه الصدمة، يذهب في اعتقاده أن مؤسسات الشباب لا مشاكل لها، ولا تعاني ما تعانيه قطاعات أخرى، ولكن العكس هو الصحيح. ذلك أن مشاكل هذا القطاع يمكن تلخيصها في التالي:

القانون الأساسي:

هذا القطاع الذي ـ ومنذ بعثه للوجود ـ يُلقى به من وزارة إلى أخرى، فمرة وزارة الرياضة وأخرى الثقافة، وثالثة الطفولة، وربما قد يجد القطاع نفسه مع الفلاحة أو السجون.
وفي كل نقلة تحضر الفوضى والضبابية في التعامل وسوء التصرّف المالي والإداري. فمرة تصرف ميزانيات المؤسسات للمندوبيات وأخرى للمجلس الجهوي، وبين هذا الخيار وذاك تختلف أشكال الصرف وتتعقد حتى بين جهة وأخرى.
كل هذا وذاك ـ وفي غياب قانون أساسي للقطاع ـ منح لسلطة الإشراف على اختلافها وتسلسلها الإداري، اجتهادات لا تصيب في أغلب الأحيان. وهذا ما منح لكل السلط التدخل في تسيير دار الشباب، ابتداء من العمدة إلى كاتب عام لجنة التنسيق، وصولا إلى أعلى رتبة حزبية أو سياسية.

البنية التحتية:

و أنت تتجول في مؤسسات دور الشباب، تصطدم بالبنية البائسة لعديد المؤسسات، حتى أنّ بعضها أشبه بسجن من ثلاثة غرف وملعب ترابي لا علاقة له بالرياضة ولا بكل الشعارات التي كانت ترفع حول الرياضة للجميع. و يحيط بهذه المؤسسات سور متداع، وكثيرا ما لا تجد لها بابا، وإن وجد فدون قفل يحميها من الاعتداء.
هذا التهميش جعل هذه المؤسسات عرضة للسرقات والاعتداءات، خاصة إذا علمنا أن أغلبها دون حارس ليليّ.
وإذا علمنا أنّ العقد الذي يربط وزارة الإشراف بكل البلديات، يفرض على كل بلدية توفير حارس ليلي أو عامل بدار الشباب. وإن توفر الشرط في بعض البلديات الكبرى أو لبعض المؤسسات التي يعرف مديرها بالولاء الحزبي، فإنّ باقي المؤسسات غير معنية ومهمشة، خاصة مع تنامي عجز البلديات.

ميزانيات المؤسسات:

إنّ الحديث عن ميزانية دار الشباب، أشبه بالحديث عن إرسال معونة إلى السلطة الفلسطينية، بل أعقد من ذلك بكثير.
ففي ولاية المهدية مثلا، يقع إعداد ميزانيات المؤسسات من قبل كل المديرين وإرسالها إلى المندوبية الجهوية للشباب والرياضة، منذ الثلاثة أشهر الأخيرة من كل سنة، ومعها الأثاث المراد اقتناءه بالتفصيل. ويبقى مدير المؤسسة ينتظر إلى شهر ماي أو جوان من السنة المقبلة. وفي كل هذه المدة تمتد المفاوضات والاتصالات والخلافات، بين الإطار المالي بالمندوبية ومراقب المصاريف العمومية، الذي يجهل جهلا تاما طبيعة القطاع، فيحدث بينه وبين الإدارة الكثير من الخلاف وسوء الفهم. مما ينعكس سلبا على سير المؤسسات التي لم تفهم إلى الآن لماذا تسير الأمور بشكل جيد في جهات أخرى وتتعطل في ولاية المهدية؟
وقد يتواصل صرف الميزانية إلى أشهر جوان أو جويلية، حيث يشرع الإطارات في التمتع بعطلهم السنوية. ويصبح لا جدوى منها (الميزانية) في علاقة بنشاط تلك السنة التربوية. هذا إضافة إلى أنّ المقتنيات المجمّعة، قد تكون تالفة أو غير أصلية (مقلّدة) أو أسعارها مشطة أو غير مطابقة للمواصفات التي طلبها الإطار (وهذا حصل أكثر من مرّة مع المندوب السابق) بسبب العراقيل التي عادة ما يتسبب فيها مراقب المصاريف العمومية.
لهذا تطالب كل الإطارات ـ وهذا مطلب قديم متجدد ـ بإعادة ميزانيات التسيير إلى مؤسسات دور الشباب، مع تشديد المراقبة.

الإطار الإداري:

أمام السياسة الضبابية نحو هذا القطاع ـ ساهم فيها بعض المشرفين من الميدان نفسه ـ أصبح مدير المؤسسة الشبابية منفذا لسياسة تجمعية، لا قدرة له على مناقشتها طالما أنّ قطاع التفقد يتبجح بأنّ المرجعية الأولى للقطاع هي خطابات رئيس الجمهورية.( إذا كان الغراب دليل قوم، مرّ بهم على جيف الكلاب)
وهذا الإطار الذي فرضت عليه أحيانا أن يقوم بحصص تنشيطية في الليل أو في سهرات رمضان، دون وجه قانوني أو ضمانة تشريعية. و أحيانا بإذن من والي الجهة دون أن تكون للمندوب القدرة على الاعتراض.
و هذا الإطار الذي يجبر أحيانا على أن يقوم بدور المنظف ـ في ظل عدم وجود عملة ـ يتقاضى منحة إدارة لا تتجاوز الثلاثين دينار (إدارة وسكن ) يخجل موظف تونسيّ أن يستلمها. مع العلم أنّ وزارة الإشراف تملصت من صرف منح الإدارة لعشرات المديرين ولمدة فاقت الخمس سنوات، دون وجه حق و بتعلات واهية.
أما بقية المؤسسات المُحدثة لاحقا ضمن سياسة هامشية تعبويّة، مثل مؤسسة تنشيط الأحياء كثيفة السكان وحافلات الإعلامية.. فإنها ما زالت دون قانون وأدوارها غير واضحة، بل مهمشة.
أما التنشيط الريفي، فحدّث ولا حرج عن مخاطر الطريق وصعوبات التواصل، ومنح تنقل لا يمكن لأحد أن يثبت معناها ودواعي منحها (أسبوع تنقل، يمنح للإطار ثلاثة تنقلات فقط، وربما تجد خلاف ذلك في جهات أخرى).
و في كل مرّة تتكرّم الإدارة العامة للشباب ببرامج جديدة و وثائق لم تستقر على شكل منذ سنوات. وها حصلت الثورة التي ستجبر الإدارة على إعادة النظر في وثائقها وبرامجها وأنشطتها وربما مناشيرها. مع اعتذار سلك التفقد عن كل الأخطاء التي حصلت من قبلهم (بعضهم) تجاه الإطار التربوي، مع ضرورة قيامهم بأدوارهم في كنف الشفافية والعدل والمساواة بين الجهات والمؤسسات والإطارات.
فإضافة إلى كون بعض الجهات تبقى دون متفقدين لمدة طويلة، فإن حضور بعضهم لا يضيف شيئا، بل يدعم المحاباة والمحسوبية في إسناد الأعداد أثناء زيارات التفقد.
من ذلك أنّ بعض الإطارات لم تسند لها أعداد منذ ما يزيد عن ثماني سنوات، وهذا يستدعي ردّ الاعتبار لهؤلاء الإطارات. مع العلم أنه ثمة منشور يجبر المتفقد على منح الإطار عددا كل سنتين ( منشور عدد 2 بتاريخ 15 جانفي 2005)
إنّ هذا القطاع الذي ارتبط بسياسة بن علي وترعرع في أحضان حزبه البائد، وجد نفسه الآن أمام دهشة الثورة وتحولاتها.و لم يجد إطاراته ذرة كرامة كي يطالبوا يحتجّوا و ينددوا... لأنهم لا زالوا تحد تأثير الصدمة. وأن الشباب الذي كانوا يؤطرونه ليس إلا خدم التجمع وأبناء الشباب الدستوري وبعض المنظمات الموالية. لهذا لا بدّ من تفعيل مشروع القانون الأساسي المطروح منذ سنوات وإخراجه إلى النور، حتى يتهيكل هذا القطاع، ويعمل في ظل الشرعية بعيدا عن التهميش وسياسة الإرباك.



المهدي عثمان

الاثنين، 28 مارس 2011

جريدة الدولية/ العدد الثالث


تضمن العدد الثالث من جريدة الدولية عديد المقالات لكل من محمد بن طاهر و خليل أنور و سالم لبيض والمهدي عثمان و محمد بو عود و إبراهيم علوش و زهير الخويلدي و كمال الرياحي و فارس غنيم و محمد مختار أبو سيف و رياض خليف و ظافر ناجي. إضافة لحوارين مع كل من الشاعر كمال بو عجيلة أجراه الصديق لسعد بن حسين و آخر مع منسق الجبهة الشعبية الوحدوية، أجراه حبيب الحمدوني. كما توفر العدد على نص لأيمن البوغانمي ترجمه لطفي بولعابة. هذا وتم نقل وثيقة سرية عن صحيفة النهار الجزائرية، تكشف مخططا لتقسيم ليبيا.

مع العلم أنه شرعت الصحيفة ابتداء من هذا العدد في تأثيث ركن جديد تحت إسم " قاموس الدولية" يعده أسبوعيا المهدي عثمان. وقد جاء في هذا العدد (الصفحة 5) تعريفا لمصطلحي المجلس التأسيسي والعولمة، كل على حدة.

نحو التأسيس لمفهوم المثقف الجمعي

المهدي عثمان نحو التأسيس لمفهوم المثقف الجمعي: دور المثقف في بناء الكيان الثقافي العربي الإفريقي تصدير: تتمثّل رسالة المثقف في الحفاظ على حالة من التنبّه الدائم، من الاستعداد الثابت لعدم ترك أنصاف الحقائق أو الأفكار المعترف بصحّتها توجّه المرء في حياته . ( ادوارد سعيد : تمثلات المثقف) تمهيد: هل ما زال من الممكن الحديث عن مشروع عربيّ في مجالات الثقافة والسياسة والاقتصاد؟ و هل من الممكن أنْ نجزم بوجود كيان ثقافيّ عربيّ إفريقي قبل أن نتحدّث عن خصوصيّة كل فكر داخل كلّ قطر؟ وإذا كان لا بدّ أنْ نجيب بــ " نعم " على كل الإشكاليات المطرحة آنفا، فإنه لا بدّ من وضع السؤال التالي على طاولة التشريح: ما الذي قدّم المثقف العربي للإنسان العربي ؟ و بالتالي من الضروري أن نسأل ما الذي قدّم المثقف الإفريقي للإنسان الإفريقي ؟ وطالما أنّ الفكر الفلسفي يستدعي الانطلاق من الإشكال وطرح السؤال، فإن انطلاقنا منه يؤكد وعينا بأهميّة الأزمة التي يعيشها المثقف العربي والإفريقي. وهي أزمة ما انفكّت تتضخّم يوما بعد يوم كلما ازدادت الأزمة العربية عمقا، وكلما تراكمت المشاكل الحضارية في الدول الإفريقية، سياسية وثقافية و اقتصادية... 1ـ مأزق المثقف أمام تحولات الراهن: إن اندحار الاستعمار الكولنيالي وبداية بناء الدولة الوطنيّة منذ خمسينات القرن الفارط، مهّد طريق الاعتقاد في تراكم اللبنات المساعدة على البناء والرقيّ. غير أنه وفي الوقت الذي لم تسْتفد الدول العربية والإفريقية من توازن الرعب أثناء وجود الكتلة الشيوعية، ممثلة في الاتحاد السوفياتي سابقا، ولم تستفد من حركة عدم الانحياز التي حاولت خلق فضاء مواز، ولم تستطع الدول العربية الاستفادة من حربها مع الكيان الصهيوني، ولا من تجربة وحدة مصر مع سوريا ( 22 فيفري 1958) ولا حتى من سقوط الكيان العنصري في جنوب إفريقيا ... ثمة كثير من التجارب القطرية والفردية كان من الممكن الاستفادة منها، غير أنّ عوامل متعددة ومتراكمة ساهمت في تهميشها أو عدم الانتباه إليها. إننا إزاء دهشة / قلق لم نستطع الانفلات من براثينه/ ها. وحتى لا أخلط الأشياء عمدا أو تجاهلا فإنني لا أقصد بــ " الدهشة " تلك الحيرة الفلسفية التي عادة ما تكون بداية الفلسفة ـ كما نظر لها هيدجير ـ ولا ذلك " القلق " الوجودي الذي انبثق بوضوح لدى سارتر، وهو يدعو للقطيعة مع الميتافيزيقا. إننا إزاء قلق نتاج الجهل.. نتاج الحاضر و المستقبل المتهالك والمتآكل .. إلا من الثبوتيّة و الإطلاقيّة والأحاديّة في كل مجالاتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية... " وبدا واضحا إلى أيّ حدّ كان وهم اللحاق بالنموذج الغربي و التماهي فيه إيديولوجيا خالصا "(1) إنّ المجتمع العربي الراهن لم يثبت مطلقا أنه أنتج غير مثقفين منعزلين، يعملون بفرديّتهم و وفق مسالك ضيّقة لا تخضع لمنهج أو مدرسة. أي لا تنتمي (المسالك) لنسق أو منهج يدعم فكرة التفاعل الثقافي العربي الإفريقي. وبالمثل تنطبق هذه الفكرة على المجتمع الإفريقي الراهن . ولعلّ أكثر المسائل المعيقة للتفاعل الثقافي العربي الإفريقي، هي مسألة الهويّة، أو بالأحرى بعض عناصرها الدافعة والمؤثرة. مثل عنصر الدين الذي يقرأ باعتباره أداة سيطرة أو جذب أو تكفير أو نفور، حسب المعطيات التاريخية وتقارب الأقطار فيما بينها وتباعدها واختلاف أنظمة الحكم. فلقد أدى التحليل اللاتاريخي إلى وقوع المثقفين والعلماء العرب والأفارقة في عملية من النفي المتبادل اتخذ صورا جديرة بالمراجعة، ليس أبسطها تلك الأدبيات الوفيرة التي لا تتحدّث إلا عن " نشر " العروبة والإسلام في إفريقيا هذا ما أكده حلمي شعراوي وهو يتحدث عن جدل الثقافات الإفريقية العربية، والحقيقة أن مثل هذا لطرح مشاع ومتداول عند المثقفين كما عند العامة. هذا بالضبط أهم العوامل التي تجعل المثقف العربي الإفريقي على السواء يتحاشى التعامل معها أو الاقتراب منها باعتبار حساسيتها وخطورتها. فهو حين يرفضها محاولا التقاطع قدر الإمكان مع الفكر اليساري أو باعتبار الدين ( الدين الإسلامي تحديدا) أداة هيمنة في سياق التنظير للدولة الإسلامية والفكر الجهادي. أو في إطار الفكر التبشيري المغلف بفكر استعماري خفيّ. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى من الممكن أن يتبنّى بعض المثقفين العرب الخيارات الإسلامية الماضوية، وهو ما يجعلهم يلفون من حيث يدرون أو لا يدرون حول فكرة " الإمارة الإسلامية " وما تحمله من منزلقات. و أنت أمام مثل هذا التداخل، لا يمكن أن تنتصر لفكرة دون أن تنتهي إلى منزلقات إيديولوجية أو أثنية أو دينية،باعتبار أنّ الدين ـ وفي كل الحضارات وبحسب كل التعريفات ـ يعد مقوما من مقومات الهوية، حتى ولو اتخذ بعض العلمانيين منه موقف الرافض" وعلى أيّ حال فإنّ الكثير من الأدلة توضح أنّ الفكرة القائلة أنّ هناك جماعات لها حق الانتساب القائم على الهويات الدينية و الجنوسية والعمريّة والإقليمية والعرقية وغيرها من الهويات التي " وُلد " الناس بها، توفّر الطاقات الأخلاقية التي تحفّز التجديد والتقدّم الاجتماعي والسياسي الذي يراعي مصالح الجماهير "(2) بهذا نكون أمام تقاطع " المثقف" و " الهويّة " و " الدولة "... الدولة بشقها العربي والإفريقي، والدولة باعتبارها أحد مكونات الكيان، باعتبار أنّ الكيان مجموعة دول. لنتحدّث تبعا لذلك عن كيان عربيّ وآخر إفريقي كما يمكن أن نتحدّث عن " كيان عربيّ ـ إفريقي "، وهو ما ننظر له الآن. وفيما استطاع الآخر / الغربي القطع مع هذه المفاهيم وتحديدها وإخراجها للعلن، حيث أمكن للمثقف ـ وهو أحد أضلاع المثلث المذكور (مثقف/ هوية / دولة ) ـ أن يدلي بدلوه، لينتج كمّا مفاهيميا تبعا له أمكن إيضاح الفروقات وتحديد التباينات بين كل من المثقف والهوية والدولة . ففيما أعاد المثقف الغربي منذ ق18، طرح العلاقة بين المثقف والسلطة، وبين الدولة والحزب، وحدد المفاهيم الدقيقة للمجتمع المدني، ظل المثقف العربي والإفريقي يتخبّط بين الحزب باعتباره دولة، وبين الدولة ممثلة في حزب، وبين المجتمع المدني باعتباره ما يفرزه الحزب الحاكم. " فلم تعد السياسة ( عند المثقف الغربي ) بمعناها الواسع امتدادا طبيعيا للإنسان " الحيوان المدني والسياسي "، ولم تعد مجالا متعاليا يرتبط بالحيّز اللاهوتي ويخرج عن نطاق البشر" (3) و لم تعد السياسة ـ تبعا لذلك ـ إلا نشاطا مدنيا يسمح باعتناقه ويقبل الجدل والنقد والرفض كغيره من الأنشطة الأخرى. و فَقد ما هو سياسي تلك الصبغة اللاهوتية المتعالية التي لا يمكن الاقتراب منها بسبب فك الارتباط التاريخي بين الدولة والكنيسة. وصار ثمة فصل بين الدولة والحزب و الحاكم والحكومة .. و غيرها من المفاهيم التي لا زالت عند المواطن العربي، وحتى المثقف العربي والإفريقي، يشوبها الكثير من الغموض والقداسة. لذلك ظل المثقف العربي والإفريقي بين مطرقة السلطة وسندان الواجب. باعتبار دوره " في الحفاظ على حالة من التنبّه الدائم " كما يقول إدوارد سعيد. وهذا ليس غريبا تبعا لعوامل مختلفة ومتنوّعة، لعل أهمها ما خلّفه الإرث الاستعماري من فكر وإيديولوجيا تبعيّة وانهزامية يمثّله فيها قوى الرجعية حينا، وقوى البراغماتية السياسية و الاقتصادية حينا آخر. مما ساعد على بقاء حالة المستعمرات كما هي عليه أثناء الخمسينات. إننا بذلك لا نرتدي رداء " المؤامرة" التي يتزيا بها المثقف العربي والإفريقي دائما، وهو يبرر عجزه، ولكن " المؤامرة " جزء من كلّ . بل هي أحد الأجزاء المهمة.وهذا ما دفع الفكر العربي والإفريقي إلى الأخذ عن الآخر المتقدّم طالما أن " المغلوب مولع أبدا بالإقتداء بالغالب " على حد تعبير ابن خلدون. وبدأ المثقف العربي والإفريقي على السواء يكرر ويلوك المصطلحات والمفاهيم التي ينتجها الآخر . ففي الوقت الذي ينهمك فيه المثقف الغربي في الجدل القائم حول مفهوم " العولمة " و " الحداثة " وما بعدها .. لا زال المثقف في دولنا العربية والإفريقية يجادل بكل قواه حول مسائل " العلمانية" و " الديمقراطية " و " التوريث" و " قانون الأحزاب". في حين أنّ مثل هذه المسائل حسمت في أوربا وأمريكا منذ جون لوك (1632 ـ 1704) و روسو ( 1712 ـ 1778) الذي نظّر في كتابه " العقد الاجتماعي " (1762) لضرورة بعث " نظام ديمقراطي يكون فيه الشعب صاحب السيادة " (4)حتى أنّ بعض المثقفين المصريين لا زالوا يجادلون الآن ـ وفي القرن الحادي والعشرين ـ حول مسألة عودة مصر إلى فرعونيتها. بمعنى أن يكف الشعب المصري عن أن يكون عربيا. ألسنا هنا أبعد ما نكون عن المطلب الاجتماعي للعالم العربي ؟ أليس المثقف الإفريقي الغارق في الحروب الأهلية وتجارة السلاح وصراع الأثنيات والأقليات، أبعد ما يكون عن الانتباه لما آلت إليه مراحل التطور التاريخي في علاقة بالتكنولوجيا وسيطرة ميكانيزمات العولمة وعودة الاستعمار من النوافذ بعد أن خرج من الأبواب ؟ أليس المثقف العربي الغارق في الخلافات بين الأشقاء العرب واستنزاف الموارد و الثروات في غير مواضعها والصراع العربي الإسرائيلي واستفحال المافيا الاقتصادية... ألا يبعده هذا عن الانتباه لإصلاح الدولة والمجتمع المدني والوقوف بنديّة أمام الآخر وهو يتحاور معه حول " التسامح " و " حوار الحضارات " و " الإرهاب " و " التثاقف " ...؟ إذن أليس رفع شعار " أمة عربية واحدة " منذ 1943 مع ميشال عفلق، يعد قفزا على المطالب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية عصرئذ؟ أليس انعقاد مؤتمر القمة العربي الإفريقي في مارس 1979 بالقاهرة، كان قفزا على الواقع العربي والإفريقي على السواء، رغم حضور 62 دولة من الجانبين ؟ هو قفز لا زال يتكرر إلى الآن في كل السياقات الفكرية و السياسية والاقتصادية منها.و مردّ هذه الأخطاء المتكررة على الجانبين، هو عدم توفر الأرضيّة الفكرية التي تبنى عبر التراكم المادي والتاريخي وبجهد كل الأطراف السياسية والثقافية، وبسبب المصالح الآنية، كوجود خطر خارجي أو تمرد داخلي. وهذا ما ترك الآخر يطرح" ذاته باعتباره هو النموذج الوحيد الواقع في ساحة المعرفة والمضاهاة من أجل الاقتداء به والإفادة من دروس تطوّره والاستعانة بما لديه من رسائل الفهم والتحقيق لكيانية التنمية فيه"(5) وإن كان هذا الطرح لا يعد عيبا ونحن داخل جدل تاريخي وحضاري، و تثاقف إنساني حتّمه إلغاء الحدود و وفرة الشبكات الاتصالية وانفتاح العالم على بعضه البعض. ذلك أن النموذج الغربي ليس هو النموذج الأمثل والأوحد، ولكنه أحد النماذج التي يمكن الاستفادة منها في مجالات متعددة. ذلك أن ما قدمته أوربا من ضحايا وحروب وجدل وصراع مع الملكية والكنيسة والإقطاع، ومرورها بحربين كونيتين دارت رحاها على أرضها، لم يحصل له شبيه في العالم العربي. لذلك أفرزت أوربا الثورة الفرنسية وما تبعها من امتداد في المفاهيم الحقوقية الداعمة لحرية الإنسان وكرامته وحقه في التعبير. و اتضح منذ تلك اللحظة أي دور يمكن أن يلعبه المثقف في الحياة العامة. وهذا ما قصده المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي تحديدا وهو يتحدث عن " المثقف العضوي" الذي يطرح على نفسه تغيير المجتمع إلى ما هو أفضل.وهو عكس المثقف العادي الذي ينخرط انخراطا مبتذلا في ثقافة السائد والراهن. أما كيفية تغيير المجتمعات إلى ما هو أفضل، فيرى غرامشي ضرورة تكوين الأحزاب والتنظيمات الداعية إلى فهم الوعي الطبقي وحرية الإنسان والانخراط في هذه الأحزاب والتنظيمات. إن المثقف وفق التصوّر الغرامشي هو مناضل سياسي. على عكس ما ذكرنا، لم يصطدم الفكر العربي ولا الفكر الإفريقي مع المؤسسة الدينية ولا القبلية ولا العسكرية ولا مع مفاهيم " الخلافة" و " الإمامة" و " القبيلة" و" الإثنية" و " المقدس " من الأحداث والمواقع والتواريخ. وكان من الممكن ـ عربيا مثلا ـ الاستفادة من دخول طه حسين هذه البوتقة منذ سنة 1927 مع كتابه " في الأدب الجاهلي". بالمثل لم يوجه المثقف العربي والإفريقي جهده لنقد النظام الاقتصادي المتخلف في العالمين. عوالم لا زالت قائمة على وسائل إنتاج متهالكة وعلاقات إنتاج مفككة. إن انطلاق المثقف من نقد هذه المسائل ( السلطة والنص و علاقات الإنتاج) هو الأساس الموضوعي للنهوض بالمجتمعات وإحياء د ور المثقف الحقيقي، وذلك باتخاذه لموقف واع تجاه الإيديولوجيا السائدة. فطالما أنّ آليات الحكم عربيا وإفريقيا تحكمها الفوضى و اللامشروعية حينا. والتهديدات الخارجية وفقدان السيادة أحيانا أخرى ... وطالما أن المؤسسة الدينية والقبلية و الإثنية، لا زالت تحكم في النتاج الثقافي وتفرض مشروعها بقوة السلطة وسلطة السفسطة ..و طالما أن الأمر كذلك فإنه يمكن أن نقول أنّ المثقف العربي والإفريقي فشلا على السواء في طرح البديل. وإن توفر الطرح النظري، فإن ميكانيزمات الرقابة والتهميش المتعمد للمثقف وإحياء دور محاكم التفتيش، ساعد إما على انسحاب المثقف أو إلى تأجير " عقله للمؤسسة التي ينتمي إليها، ويعجز عن إقامة أيّ صلة له بالقضية إلا عبر المؤسسة الحزبية"(6) و المؤسسة الحزبية ـ تبعا لذلك ـ تسعى ما استطاعت إلى تجميل الراهن واعتباره الأمثل. و ما سواه فكر متطرف سلفي حينا، وأخرى ينظر لضرب الهوية الوطنية والتعامل مع جهات معادية. إن حديث المثقف عن " السلطة" و " النص " و " علاقات الإنتاج" هو سؤال عن الكينونة، في خضم هزائم عربية متتالية: خيانة و تخوين.. انقسام وحدود وأراضي لا زالت محتلة إلى الآن، ليس أوضحها الأرض الفلسطينية المحتلة، هذا عربيا. أما إفريقيا فلا زالت " الدولة" تعاني " من تحلل واسع في العلاقات على مستوى الإقليم والقبيلة والعشيرة والحي والأسرة" (7) دعّمه توتّر العلاقات بين المجموعات الإثنية والدينية وفشل الأنظمة العسكريّة في تحقيق وعودها بالاستقرار والتنمية الشاملة. لهذا و ذاك لم يطرح المثقف العربي ولا الإفريقي ولا حتى مثقف العالم النامي عموما " سؤال كينونته بعد " (8). وسؤال الكينونة هذا ليس أن نجادل حول أسئلة: من نحن ؟ ومن هو الآخر ؟ لأنّ مثل هذه الأسئلة أصبحت مفرغة من معناها واسْتهلكها الفكر العربي و الإفريقي، وهو يناقش اشكاليات : الأنا / الآخر و شرق / غرب و شمال / جنوب ... وغيرها من المفاهيم التي قضت على طرحها تدخل مفاهيم أخرى "كالعولمة" و " صراع الحضارات " و "حوار الأديبان " ...وإنما نقصد بأسئلة الكينونة هو : من يحكمنا ؟ وكيف ؟ كيف نتعامل مع النص؟ و بأي شروط ؟ وأيّ وسائل إنتاج وعلاقات إنتاج يجب توفرها ؟ إنها أسئلة يجب أن تمحور حول " السلطة" بتشعباتها و ميكانيزماتها وتداخلها : "النص" في علاقته بالمقدس والمحرّم، ثم " علاقات الإنتاج" في تداخلها مع الطبقة الحاكمة وبقية الطبقات، وفي علاقاتها بمستويات الدخل و الاستقرار والتنمية. إنّ مثل هذه الإشكاليات على أهميتها وقع القفز عليها من قبل المثقف في العالم الثالث، ليصبح بإمكانه أن يجادل في مسائل تسْتدعي كمّا هائلا من التراكم المعرفي والحضاري والتاريخي لطرحها، وهو ما لا يتوفر في الساحة العربية والإفريقية . فالمثقف هنا استدعى ما تراكم لدى الآخر من معرفة ( وليس ما تراكم عندنا ) ليبني ما يجعل منه مثقفا عالميا و حداثيا، في حين أن المثقف الأصيل والحقيقي هو الذي ينطلق من هويته هوّ ليراكم عليها ما شاء من المعارف والعلوم. فمحمد عابد الجابري يؤكد أنه " دون هوية ممتلئة بمقوماتها يكون الانفتاح على الثقافات الأخرى، خاصة المهيمنة منها مدعاة للانزلاق نحو الوقوع فريسة الاستلاب و الاحتراق"(9) وهذا ما يؤدي إلى خلق حراك وجدل وطرح وإعادة طرح بما يولّد مخاضا ثقافيا متواصلا لا يؤدي إلى فعل ولادة. ذلك أن المثقف وحسب علي حرب هو الذي ينتج " الفاعل الثقافي " وليس " الإنتاج الثقافي". فما يهم المثقف هو الجدل والنقد ... هو " الدهشة " الفلسفية... هو الحفر الأركيولوجي كما نظر له فوكو، وليس فعل " الولادة " . لأن فعل الولادة يعني فيما يعنيه انتهاء الفكر إلى نقطة الاكتمال. و هذا ليس مطلوبا من المثقف، بل المطلوب هو جعل المخاض متواصلا ومرتبكا ومتقلبا، حتى ينتج " السؤال ". فالسؤال هو بداية الفعل، و نهايته ليس إلا فتح الآفاق لطرح أسئلة أخرى. وهذا لم يتوفر عند المثقف العربي ولا الإفريقي. فالأول رَكَن معاول فكره قرب جدران المؤسسة الدينية والسياسية، أو ارتمى بين براثن الآخر / الغربي أو الأمريكي. فيما تأثر المثقف الإفريقي ( عوض أن يؤثر ) بالجدل الحاصل حول الأثنيات واللغات والديانات المتعددة، يضاف لها الفقر والصراعات القبلية و الانقلابات العسكرية. " فالثابت هنا أنّ المثقفين العرب في معظمهم أنتجوا ممارساتهم الفكرية بما يُجافي دورهم المفترض: تخلوا عن وظيفة التنوير والإبداع والنقد وانصرفوا عنه إلى ممارسة وظيفة التبرير و التسويغ و الشرعنة : تبرير آرائهم في المؤسسة (السياسية) و تسويغ موقفها و شرعنة وجودها و وظيفتها"(10) انطلاقا من التعامل مع شفرات السلطة والنص وعلاقات الإنتاج، يجعل من الممكن للمثقف خلق تراكم إشكالي ومعرفي وتقني يمكن من فهم التداخل الحاصل بين السلطات الثلاث في الدولة الواحدة: القضائية والتشريعية والتنفيذية، ومن التداخل المتعمّد في المفاهيم المحددة للمجتمع المدني. و بالتالي الفصل بين حكم ملكي وآخر جمهوري وثالث عسكري ورابع بوليسي وخامس يجمع بين أكثر من نموذج. مع إضافة تداخل عناصر الدين و اللغة والقبيلة والولاء لهما، لما يتعلق الأمر بأسس الدولة الإفريقية. على أنه لا بد من الإشارة أن مثل هذا التداخل قد نجد مثيلا له في بعض الأقطار العربية. أليس " مكونات الهوية تتمثل في الدين والتراث والقيم الاجتماعية واللغة و الانتماء "(11) وعلى صحة هذا السؤال إلا أنه يحمل الكثير من المزالق. أما فيما يتعلق " بالنص " فإن التداخل أعمق وأشدّ خطرا، باعتبار تغلغل النص الديني في ما هو ثقافي وسياسي وحضاري.. وباعتبار ما للدين من أهمية في بناء التركيبة الاجتماعية للمجتمعات. وكيف بنيت الحضارة العربية الإسلامية خاصة على مفهوم ديني. و بالمثل تغرق عديد الدول الإفريقي في الفوضى بسبب الاختلاط الحاصل بين الدين و القبيلة، وبين صراع الديانتين الإسلامية والمسيحية وحتى الديانات الوثنية. والذي تجلى مؤخرا في الأحداث الحاصلة في نيجيريا والصومال وغيرها.(على علمنا أنها ليست دائما هي الأسباب الحقيقية للصراعات والتناحر) وزادت القوى الاستعمارية في شحن تلك النعرات وتأليب هذا وذاك لإبقاء إفريقيا في حالتها تلك. ولعل النموذج السوداني خير صورة يمكن أن تعكس التداخل بين الدين والسياسة والاقتصاد والتفاوت التنموي وتداخل المصالح الغربية الداعمة لفكرة " فرق تسد". مما جعل علاقات ووسائل الإنتاج تحكمها الطبقية وسيطرة أقلية على مدخرات البلدان، وعدم توزيع الثروات توزيعا يخدم التنمية البشرية ويحقق الرفاه. ذلك أنّ الطفرة النفطية التي توفرت للمنطقة العربية، وطفرة المعادن في إفريقيا ، لم توفر الرفاه لشعوبها. وحتى نكون متفائلين لم توفر الرفاه المطلوب. أمام هذا لم يتدخل المثقف في تعديل الأوتار، واكتفى بالتنظير الفلسفي ورفع الشعارات التي عادة ما يكون تأثيرها إما آنيا وإما متجاوزة للواقع، لنصبح بذلك أمام ما يسمى " الكوزموبوليتانيا" وهو الأدب أو الفكر الذي يفتقد إلى الأصالة. و يصلح لأن يطبق على أي مجتمع أو شعب عدا اهتمامه بمجتمعه. 2ـ نحو كيان عربي إفريقي: 1 / دور المثقف الحقيقي لا بد ونحن نتحدث عن المثقف، أن نحدد دور المثقف. و إن كان تعريفه على اختلاف المقاربات، يصب دوما في ما يجب أن يقوم به....معنى أدواره. وتبعا لتحديد الأدوار، ثمة ما ينتج عنها من فعل و ردات فعل تصدر عن أطراف أخرى تتلقى نتاج المثقف أو تحاوره أو تصطدم معه. خاصة وأن المثقف الحقيقي لا يكف عن حشر أنفه في كل ما يعنيه وما لا يعنيه كما يقول سارتر. ونعتقد أنه يمكن تلخيص أدوار المثقف في النقاط التالية: + إحباط محاولة تغييب الماضي + بناء حقول من التحاور و التثاقف عوض الصراع + الكشف عن بؤر القمع وضرب الحريات والتنديد بها + التساؤل المستمر ونقد الراهن كل ذلك يصب في خانة تعزيز الهوية وبناء الكيان الثقافي بغرض الوقوف أمام الآخر بنديّة وآليات دفاع تمكن من افتكاك الاعتراف وتحصيل الحقوق : كالحق في الحرية والسيادة وتقرير المصير، بعيدا عن التدخل الأجنبي والوصاية و وضع اليد على مدخرات الشعوب بالقوة أو بواسطة المنظمات الدولية التي بدأت شيئا فشيئا تفقد مصداقيتها. وما يهمنا الآن ـ وتبعا للتحولات العالمية، السياسية والثقافية والاقتصادية ـ هو أن نعرف كيف تحتم على دول العالم النامي أن تمدّ جسورها نحو الفضاءات الأقرب، وبناء تكتلات تدعم جهدها. وبما أن الدول العربية ـ ونخص بالذكر دول شمل إفريقيا ـ من حيث تموقعها الجغرافي وإرثها التاريخي والحضاري، أقرب ما تكون إلى الدول الإفريقية، فإن المنطق البراغماتي على الأقل يحتم إيجاد آليات تواصل وتقارب وتعاون، نحو مد أرضية لبناء فضاء سياسي واقتصادي وثقافي يقف بنديّة أما الفضاءات الأخرى. إن بناء كيان ثقافي عربي إفريقي، يتحتم أولا الوعي بالقواسم المشتركة بين الدولة بمفهومها العربي والدولة بمفهومها الإفريقي. وبالتالي يتحتم البحث عن أهداف مشتركة أيضا سياسية وثقافية و اقتصادية. وهذا كله يفرض وجود " مثقف جمعي " كما يقول بورديو عوض عن " مثقف فرد ". بمعنى يتعيّن بناء مؤسسات وأحزاب ومنظمات لها هدف البحث عن المشترك المادي والمعنوي، والأهداف المشتركة الخفية والمعلنة. 2ـ المثقف الجمعي والمثقف الفرد إن "المثقف الجمعي" كما يقول بورديو، هو نقيض المثقف الفرد. وهذا التناقض يعني تناقضا في الأدوار وفي المفاهيم. "فالمثقف الجمعي" هو كيان بل مؤسسة أو إن شئنا تنظيما له رؤية واضحة للمستقبل، بعد أن أخضع الماضي لمشرط النقد والغربلة، ومن ثم قرأ الحاضر قراءة متأنية ومتزنة. أما المثقف الفرد فإنه مثقف يعمل بمفرده. و إن توفرت الرؤية، فإن نتائجها غير مؤكدة باعتبار اعتمادها على الرؤية الفردية.نحن إذن في حاجة إلى عمل جماعي/ مثقف جمعي لبناء تراكم فكري بهدف مقاربة الواقع نحو مستقبل أفضل. لهذا وذاك نحن في حاجة " إلى إعادة البناء بطريقة نقدية إعادة البناء هذه لا يمكن أن تتم كما فكّر البعض في الماضي بواسطة مثقف فرد كبير الشأن، مفكر رفيع الشأن حاز على المصادر الفكرية بمفرده، أو بواسطة ناطق مخوّل باسم جماعة أو مؤسسة تفرض الكلام نيابة عن أشخاص بلا صوت أو نقابة أو حزب " (12) وهذا هو المتداول والمتعارف عليه في ساحتينا العربية والإفريقية. بقينا نقدس الأفراد، وتخلينا عن دورنا في دعمهم ومشاركتهم ونقدهم. ولم نطالب غيرهم بالانضمام إليهم و مراكمة الهم النقدي والإشكالي، نحو بناء فكر ساهمت فيه المجموعة أو " المثقف الجمعي " كما يقول بورديو، وهذا المثقف الجمعي، ليس إلا مجموعة من المثقفين الذين تشكل محصلة بحثهم أو مشاركاتهم نوع التفكير بواسطة/ عبر هموم الأغلبية. وليس تفكيرا و نتاجا لفكر يدوّن انطلاقا من برج عاجيّ للمثقف. " وهنا يلعب المثقف الجمعي دورا لا يمكن الاستغناء عنه، بالمساعدة على خلق الشروط الاجتماعية للإنتاج الجمعي ليوتوبيات واقعية" (13) ولما نتحدث عن " الإنتاج الجمعي" كما نظر لذلك إدوارد سعيد ، إنما ننفتح على امتدادنا القومي والجغرافي والحضاري، وليس التقوقع حول المحلية و الإثنية والقبلية والحزبية الضيقة. لهذا يختلف المثقف القومي البعثي مع المثقف الناصري مع الليبرالي مع الإسلامي مع اليساري ... ليحول دون جمع الأفكار و مراكمتها وخلق مقاربات تصلح لبناء عقل عربي حر ومستنير. وهذا ينطبق تماما على المثقف الإفريقي مع إضافة خلافات اللغة و القبلية و الإثنية. والغريب في المسألة أن كل هذه التناقضات والخلافات تلتقي حول مفاهيم " الديمقراطية " و "الحرية " و " حقوق الإنسان" و "البرلمانات" و .. وغيرها من المفاهيم التي يدعي المثقف أنها إنسانية ويجب الامتثال لها. رغم أن بعضها صمم كالأحذية على قياس الرجل السياسي الأوربي والمواطن الأوربي الأمريكي. أليس ممكنا أن يكون للمجتمع العربي الإفريقي ـ ولكل دولة ـ مفاهيم مغايرة ومختلفة عن سواها ؟؟ ألا يتضح ـ مثلا ـ أن الديمقراطية مجرد مصادفة تاريخية أو جملة اعتراضية قصيرة انقضى أجلها أمام أعيننا كما يسأل فرانسيس فوكوياما ؟ كل هذا ونحن نلحظ الآن ما تفعله وتجيزه الأنظمة الديمقراطية في العراق وأفغانستان وفي كل الحروب التي خاضتها باسم الديمقراطية أيضا. حتى أننا بتنا نشك في أن ما تفعله هذه الأنظمة لا يبتعد كثيرا ـ بل أحيانا يفوق ـ عن ما تفعله الأنظمة النازية والفاشية. إذن يمكن أن نشير إلى أن المثقف العربي والإفريقي ـ ووفق ما يجمعهما من إرث حضاري وجغرافي وتاريخي ـ عليهما أن ينقدا تجاربهما السابقة ونفضها من كلّيتها وحقيقتها المطلقة، ونقد المشاريع القومية واليسارية و الإسلامية و الليبرالية ... وبعض ما تحمله من أثنية وقبلية و شوفينية مقيتة، ابتداء من إعادة الاعتبار لدور المثقف و افتكاك الاعتراف من مجتمعه أولا ، ثم من السلطة ثانيا. لأن المجتمع الذي يتكلم عنه وباسمه المثقف هو الذي سيقف معه وينتصر له في وقوفه أمام السلطة بشتى أشكالها. كما أنه من المهم العودة إلى هزائمنا الحزبية والتنظيمية لدى كل مثقف، وبالتالي العودة إلى هزائمنا السياسية وخياناتنا المتكررة، التي بدورها أدت إلى فشل المشاريع النهضوية. نعود إليها بالنقد والتحليل والتفكيك، لأن بقاء الكثير من الأخطاء خارج نطاق التصحيح، يجعل من الممكن تكرارها، و يبقى الكثيرون خارج بوتقة المحاسبة. لتستوي ـ تبعا لذلك ـ قيمة المثقف والمناضل السياسي النزيه مع الخونة ومن يسمسرون في قضايا الشعوب. يجب تبعا لهذا القول إعادة قراءة فشل مشاريع الوحدة العربية بين العراق والجمهورية العربية المتحدة، وتكرر فشل محاولة الارتباط بين سوريا ومصر والعراق سنة 1963. وتكرر فشل التجربة بين العراق وسوريا. كذلك لا بد من إعادة النظر في تداعيات الحروب العربية مع اسرائيل وفشل وحدة تجربة المغرب العربي وأحداث السودان الدراماتيكية التي مهدت لتدخل قوى أجنبية في تفاصيلها، وعدم الاستفادة من حرب لبنان سنة 1982 كذلك إعادة قراءة تجربة منظمة الوحدة الإفريقية التي بعثت سنة 1960. ومن المهم قراءة كل الحروب البينية والأهلية التي حصلت في القارة الإفريقية، مثل حرب الصومال مع أثيوبيا وليبيريا (1977ـ1978 ) وحرب تنزانيا مع أوغندا (78 ـ79 ) وحرب السودان مع موزنبيق و بورندي مع أنغولا وغيرها من الحروب ... بحيث أكدت أرقام منظمة الأمم المتحدة أن سنة 1996 شهدت معاناة 14 دولة من الحروب الأهلية والصراعات، من أصل 53 دولة. بما يعني أن المشكلة الأساسية والمحورية لإبطاء التعاون العربي الإفريقي، يعود بالأساس إلى مثل هذه الحروب التي أدت ـ مثلا ـ إلى مقتل أكثر من 800 شخص في المذابح التي هزت رواندا سنة 1994. والمؤسف حقا أن المثقف الإفريقي بقيت رؤيته للمشهد الدامي رؤية روائية شعرية، لا ترتقي إلى مستوى التنظير، ولم يساعده المثقف العربي في ذلك ربما لأن هذا الأخير تكفيه مشاكل القمع واختلال توزيع الثروات وحتى مسائل العولمة والحداثة التي أبعدته عن الواقع المعيش . وقد دعّم الإعلام ( وهو حالة ثقافية) حالة التعمية و تجميل الواقع و الراهن إفريقيا وعربيا. فيما نزلت القوى الاستعمارية ـ بميكانيزمات متجددة ـ بكل قواها في ميدان المعارك لتدعم فكرة القبلية والتناحر والصراع تارة عبر التدخل الأممي وأخرى عبر الغارات الجوية والقرصنة. مثل ما حصل للجماهيرية الليبية و الصومال و السودان وعديد الدول الأخرى. بل وجدت إسرائيل منفذا عبر تجنيد يهود الفلاشا وعقد اتفاقيات تعاون عسكري مع أثيوبيا و كينيا في ظل استقالة الدول العربية من أدوارها. في ظل كل هذه المؤشرات، بقي المثقف العربي والإفريقي يتعامل مع الراهن والآني بخوف حينا وتملق حينا آخر واستقالة أحيانا كثيرة. 3 ـ رؤية ثقافية نحو كيان عربي إفريقي: إن ما سبق الإشارة إليه، ليس إلا إطلالة على قراءة مبسطة للراهن العربي الإفريقي، دون أن نعرّج على تفاصيل عديدة ومهمة ومؤثرة، مثل غزو العراق وتواصل التهديدات من قبل الكيان الإسرائيلي للبنان وسوريا، ومزيد ضرب مقومات الشعب الفلسطيني. إضافة للتوتر العربي الإيراني وقضية الصحراء الغربية... إلخ يبقى من المهم أن نعرج على القارة الإفريقية وعلى الدول العربية في القارة الإفريقية وضرورة تفعيل المثقف لدوره. إنه من الضروري الإشارة إلى التقارب الحضاري والتاريخي بين الشعوب العربية والإفريقية . وقد أكدت عديد الدراسات الأنثروبولوجية هذا التوجه. وقد دعم الرئيس السنغالي السابق صاحب جائزة نوبل ليبولد سيدار سنغور، هذا المعنى بقوله أن العرب والأفارقة ما هم إلا مجموعات متفرقة من الشعب الإفريقي. فتكويناتهم اللغوية هي سلسلة متصلة من الشمال إلى الجنوب وثقافاتهم متفاعلة ومتشابهة حول مفاهيم الإنسانية واللاهوتية. فالزنجي الإفريقي قد استلهم العاطفة من الجنوب... فالاختلافات باقية وكذلك التعاون باق بين كل الأفارقة. إن هذا التفاؤل الصادر عن مثقف بحجم سنغور، يجب أن يتبعه قراءة اثنوغرافية و ابستيمولوجية و أنثربولوجية في أصل الشعوب وعلاقات القرابة والأصل و الامتزاج، ليتضح مع التفاعل العربي. مثل هذه الدراسات التي سيقوم بها المثقف ضمن سياق " المثقف الجمعي" لدعم بناء الكيان الثقافي العربي الإفريقي. هذا الكيان الذي يعدّ على أرض الواقع الجغرافي حاصل فعلا باعتبار أن 75 بالمائة من الأراضي العربية تقع في القارة الإفريقية بما يوازي60 بالمائة من الشعب العربي. بالمائة من سكان القارة السمراء هم عرب و بعملية حسابية بسيطة نعرف أن 28 أفارقة. و إذا أضفنا وجود الدين الإسلامي في القارة الإفريقية، ندرك أيّ معنى تلعبه كل هذه المؤثرات لدعم فكرة التلاحم العربي الإفريقي. فالمثقف العربي عليه أن يعمل معاول الفكر العربي لدراسة تأثيرات تلك النسب في الراهن العربي. رغم أن الراهن أوضح أنّ النِسب المشار إليها بقيت نسبا ولم يستفد منها، عدا ما فعلته ليبيا في توجهها نحو القارة الإفريقية بعد أن يئست من الفعل العربي، وعدم قدرته على التجمع في كيان. ومع " تجمع دول الساحل والصحراء" الذي تأسس على أنقاض منظمة الوحدة الإفريقية التي نشأت في 1960، يكون المثقف العربي قد استشعر أهميّة الكيان العربي الإفريقي وأهميّة التلاحم بين دول تربطها ببعضها عوامل متعددة جغرافيا وحضاريا وتاريخيا .. فيما تكتلت دول أخرى ـ في أوربا مثلا ـ دون أن يجمعها مشترك واحد عدا المصالح الاقتصادية. بل نذهب إلى أبعد من ذلك، حين نعلم أن تسع دول إفريقية وعربية يعبرها نهر النيل،بما يعني أن عبوره يخدم قرابة 150 مليون نسمة. فالمثقف العربي و الإفريقي ـ وضمن سياق المثقف الجمعي ـ عليه الانتباه لأهمية المياه في إفريقيا، وتأثير منابع الأنهار والبحيرات ودورها في استقرار الدول، في ظل الجفاف وتهديد عديد الدول بالعطش. أليس الأحرى بالمثقف أن يبحث عن البديل والمشاريع وطرح الأفكار التنموية للتخفيف من المأزق عوض الانخراط في مصطلحات الحداثة والعولمة و" نهاية التاريخ" ... مصطلحات لا أعتقد أن المثقف في العالم النامي يمكن أن يضيف عليها شيئا باعتبار أنها مفاهيم من صنيعة النظام الليبرالي وقوى السيطرة. و أن حداثتنا هي واقعنا وراهننا. والعولمة هي أن ننتبه لهويتنا أولا " فلكي تدرك ذاتك، لا بدّ أن تكتشف الجذور المميزة التي تتعلق بأصل عائلتك وأكثر من ذلك بمجتمعاتك المحلية العرقية و اللغوية والدينية وأشكال الحياة الخاصة بها، وأن وتنميتها"(14) )gender تعترف بالجذور المتعلقة بالجنوسة( وما نهاية التاريخ إلا تصوّر أمريكي يقضي على الآخر وعلى خصوصياته وهويته، ولا يُبقى إلا على المثال الوحيد والأوحد، وهو النظام العالمي الجديد وسياسة النهب الأمريكية. إذن يجب الانتباه إلى أنّ ما يجمع دول الاتحاد الأوربي ليس ما يجمع العرب بإفريقيا، لكن مع ذلك لا يجب الاكتفاء بالعامل الجغرافي واللغوي والديني لخلق كيان ثقافي عربي إفريقي. لذلك يجب على المثقف الجمعي العمل على: ـ إحباط محاولة تغييب الماضي. ـ بناء حقول من التحاور و التثاقف عوض الصراع. ـ الكشف عن بؤر القمع وضرب الحريات والتنديد بها. ـ التساؤل المستمر ونقد الراهن. وهي جملة من المحاور التي يجب على المثقف الاشتغال عليها حتى يستطيع ـ تبعا لذلك ـ أن يبني حقولا من المعرفة تؤدي إلى بناء كيان عربي إفريقي مشترك، أو على الأقل تهيئة الأرضية النظرية المناسبة لذلك. أـ إحباط محاولة تغييب الماضي إن تغييب الماضي محاولات تقودها قوى الاستعمار الجديد الدافعة لمحو هويات الشعوب، خاصة منها العربية والإفريقية، دينا ولغة وثقافة وتراثا ... واحتضان الفكر الليبرالي بما يعنيه من تقديس الفرد وضرب الهويات . وإذا كانت عديد الدول هي عبارة عن مجرد تجمع لسكان وافدين، لا تتوفر على تاريخ .. فإن كل الدول العربية و الإفريقية هي إفراز تراكم حضاري وحضارات مرت على ربوعها واستوطنتها. لذلك نفهم لماذا فشلت كل القوى الاستعمارية في محو ماضيها وإلغاء هوياتها. مثل محاولة إحباط تغييب الماضي،ليس الهدف منه تقديس القديم والبكاء على أطلال حضارات بائدة، ولكن تفكيك العقل الماضوي وإخضاع ما يمكن الاستفادة منه لطاولة التشريح الحضارية. وبالتالي فهم مدى عمق التلاحم الذي يجمع الشعب العربي بالشعب الإفريقي. فإذا أمكن فهم المدّ الإسلامي في إفريقيا كحلقة تاريخية ضرورية، وأقصينا ما شابها من خوف وكره وصراع كردّة فعل للمواطن الإفريقي على الدين الجديد، أمكن بسط أرضية تفاهم مغايرة. بالمثل إعادة التصالح مع إفريقيا في ما يخص تجارة العبيد التي لم يكن العرب فيها سوى جسر عبور إلى العالم الأوربي والأمريكي. نحتاج فقط إلى قراءة متأنية لتاريخنا العربي و الإفريقي، لفهم محاولات التشويه والإقصاء. وهذا يفترض تعاونا عربيا إفريقيا على مستوى مؤسساتي وبدفع من مثقفين لهم برامج واضحة، هدفها دعم بناء كيان ثقافي مشترك.و محاولات إقصاء وتغييب الماضي تشمل اللغة والدين والحضارة، بمعنى تغيير هاته الأسس ببدائل من عندياتهم تصب في النهاية في مصلحة تيارا الجذب إلى الوراء، أو الارتماء في أحضان الآخر الذي لا تربطه بالعالم النامي عدا المصلحة والثروات. وقد تعمد قوى الاستعمار الجديد إلى التدخل المباشر للتغيير عبر أدوات الضغط والعسكرة، وقد تترك الأمر لفئات وأطراف محلية تمثلها أحسن تمثيل في تلك الأدوار. ب ـ بناء حقول من التحاور و التثاقف عوض الصراع إنّ التماس الجغرافي، بل وجودنا على نفس الكتلة الجغرافية، حتّم ـ أمام اختلاف اللغة والدين ونظم الحكم وتدخل القوى الاستعمارية ـ حصول خلافات وصراعات كانت بعضها مفتعلة وبدعم خارجي، مثل صراع ليبيا مع تشاد والسودان. وإن أمكن بتوفر إرادات سياسية تجاوز خلافات ليبيا مع هذه الدول ـ خاصة مع إقصاء جعفر النميري وحسين حبري ـ إلا أن بعض الدول الأخرى لا زالت تحكمها المصلحية الضيقة، مثل الصراع الجزائري المغربي حول الصحراء الغربية. وتواصل الحروب الداخلية والاقتتال على السلطة والثروة والسلاح في عديد الدول الإفريقية، مثل رواندا ونيجيريا و أنغولا .. كما تواصل التدخل الأجنبي في عديد الدول على غرار دارفور والصومال وعديد المناطق الغنية بالثروات المعدنية، لهذا صار صراع الدول الاستعمارية أكثر ضراوة وشراسة بسبب تزايد مطامعها، وانضمام دول أخرى لأوربا وأمريكا مثل الصين. مثل هذه الصراعات والحروب التي تتداخل فيها عوامل عدة، سياسية وثقافية واقتصادية .. تتمازج فيها مطامع استعمارية مع طموحات قوى داخلية و مافيات وعصابات، هدفها خدمة أجندات استعمارية أو مصالح قبلية أو أثنية أو دينية ضيقة. وإن كانت " بعض التناقضات الجدلية لا تقبل التسوية " كما قال إدوارد سعيد، إلا أنه من الممكن تفكيكها و مراكمة النقاشات حولها وإعادة طرحها لتمكين المثقف من " مقاربة الحلول" حتى لا نزعم بإمكانية إيجاد الحلول. ولقد علّمنا التاريخ أن قضايا سياسية وتاريخية ما كان من الممكن حلها، مع ذلك توفرت إرادات المثقفين ونزعوا الطابوهات عنها ومكنوا من مساعدة السياسيين على اتخاذ القرارات الدافعة. ولعل الاتفاق الحاصل بين مصر وأثيوبيا والسودان حول توزيع مياه النيل كان من أهم الاتفاقيات الحاصلة في مجال المياه. خاصة إذا علمنا أن نسبة 85 بالمائة من المياه تتجمع في أثيوبيا، وإذا علمنا أيضا مدى تداخل المصالح الأثيوبية بالإسرائيلية .. غير أن اتفاقية 1929 حدت من تلك المصالح، رغم أن الأجهزة الإسرائيلية لا زالت تحاول التشويش على المصالح والتقرب العربي الإفريقي. و مصر الآن تتسلح بهذه الاتفاقيات وبقرار محكمة العدل الدولية الصادر عام 1989، والذي يقضي بأن اتفاقية المياه شأنها شأن اتفاقية الحدود لا يجوز تعديلها، وكذلك فإن معهد القانون الدولي أقر عام 1961 مبدأ عدم المساس بالحقوق التاريخية الموروثة في الموارد المائية، وأيدت المادة العاشرة من اتفاقية فينا للمعاهدات عام 1978 ونصت على توارث وانتقال المعاهدات العينية والاتفاقيات الخاصة بالحدود، وفي عام 1997 أكدت محكمة العدل الدولية في حكمها هذا المفهوم عند النظر في النزاع بين المجر وسلوفاكيا حول أحد المشروعات على نهر الدانوب. و هنا من الواجب التساؤل عن انعدام وجود قمم على مستوى عال للنظر في مشكلة المياه في إفريقيا، وتكون هذه القمم مشتركة ( عربية ـ إفريقية) باعتبار التداخل الجغرافي و الطبيعي. و لما نقول أن اتفاقية ما سبقت تدخلا استعماريا أو معاديا، إنما ننبه إلى أن فعل السبق يجب أن يكون حاضرا. وهذا يستدعي من المثقف العربي والإفريقي الاستعداد الدائم والحفاظ "على حالة من التنبه الدائم " كما يقول إدوارد سعيد. فيضع فكره المتوقد في خدمة القضايا الإفريقية والعربية وإيجاد الحلول للمشاكل العالقة. على أنه وجب التذكير أن من جملة مشاكلنا، ليست الحدود والفقر والتخلف والصراع القبلي و الإثني والأطماع الخارجية .. ولكن ـ أيضا ـ إقصاء الفرد وتهميش دور المثقف وسيطرة النظم الديكتاتورية والتوزيع المتفاوت للثروات. فالمثقف المقموع في دول عربية وإفريقية عديدة، عليه أولا ـ ونحن نتحدث عن التحاور و التثاقف ـ إيجاد آليات حوار وجدل مع السلطة والأحزاب والجماعات أي كان انتماء وإيديولوجيا هذه الأطراف. لأن المثقف طالما لم يفتك الاعتراف من السلطة ومن المجتمع، فإن فعله سيبقى رهن حالتين: إما قمعه أو سحبه إلى حظيرة السلطة. فدور المثقف في سياق الجدل القائم، عليه أن " يبدأ بالفرد وينتهي إلى المواطن وينطلق من الفرد ـ المواطن ليصل إلى الدولة الديمقراطية"(15) " فالمثقف الجمعي " عليه مثلا إعمال ميكانيزمات الحوار لتقريب الهوة بين " الهوتو " و" التوتسي " و " التوا" في رواندا. و إيجاد أرضية تفاهم وتقارب خاصة حول توزيع الثروة والسلطة وبحث تشريك هذه القبائل في الفعل السياسي والشأن العام. بالمثل على المثقف تقديم حلول للخلاف الجزائري المغربي حول الصحراء الغربية وتقريب أطراف النزاع في نيجيريا خاصة جماعتي " الايبو" و " الأوجوني " .. ولا ننسى الحرب الصومالية التي صار الصراع فيها دينيا وسياسيا واستراتيجيا ... غير أن المثقف عادة ـ ونحن ضمن السياق العربي الإفريقي ـ لا يجد مجالا للفعل، وبقي حواره عقيما بسبب عوامل موضوعية وأخرى ذاتية. ليس أهمها إقصاء المثقف الحر واعتباره مرتدا أو معارضا أو خائنا، مما يفتح المجال لمثقفي السلطة لتقديم الحلول التي عادة ما تكون هي نفس مواقف الأحزاب الحاكمة والقوى المسيطرة. بالمثل تتخذ حكومات عديدة قراراتها دون استشارة الشعب ودون الرجوع للأجهزة التشريعية النافذة في الدولة، على غرار اتفاقية مصر مع اسرائيل (1979) مما أثر تأثيرا حاسما لصالح الأنظمة الاستعمارية وضد رغبة بعض الشعوب في التحرر، وساهم في إيجاد شرخ عميق بين العرب والأفارقة. مع ذلك يبقى الحوار و التثاقف آليات المثقف، ويجب ترسيخ هذا التقليد لدى " المثقف الجمعي" عوض الانخراط في مقالات وأدبيات عفا عليها الزمن، ولا تخدم إلا ليبراليين جشعين أو محافظين ميتين. ج ـ الكشف عن بؤر القمع وضرب الحريات والتنديد بها في إطار العمل على خلق بيئة مناسبة للتلاحم العربي الإفريقي، يعد الكشف عن بؤر القمع وضرب الحريات والتنديد بها من الأدوار الضرورية للمثقف. بل و التي لا يمكن الاستغناء عنها. إذا كان الهدف إيجاد أرضية حوار وتفاعل بين المثقف والسلطة والشعب من جهة داخل القطر الواحد، وبين القطر الواحد وبقية الأقطار. وهذا الفعل الذي هو من أدوار المثقف، و" المثقف الجمعي" تحديدا يستدعي حفرا أركيولوجيا لفهم آليات القمع و ميكانيزماته وشروطه واختلافه من قطر إلى قطر ومن سياق اجتماعي إلى سياق آخر. فالقمع باسم " الوطنية " مختلف عن غيره باسم الدين أو باسم الإرهاب أو الحرية.. غير أنّ النتيجة في النهاية واحدة، وهي " صنع " الإنسان الخائف والمتردد وغير الفاعل. وبالتالي تسمح هذه النتيجة بوجود دولة يمثلها الحزب أو الفرد أو العائلة أو القبيلة" وهذا مكن من إنتاج مثقف عربي لم يستولد معه أو له طبقات اجتماعية تحتاج الثورة أو تحكم بها"(16) بالمثل يصح هذا القول على المثقف الإفريقي الذي لا زال يراوح بين قمع السلطة والقبيلة والتدخل الخارجي وعوامل أثنية وسياسية مختلفة. وأمام عدم الوصول إلى إنتاج " مثقف جمعي " عربي إفريقي " بدأ المثقف عاريا أو شبه عار معلقا في الفراغ ينوس بين جمالية المتمرّد و يوتوبيا النقد الاجتماعي الشامل "(17) إذن، هل أن المثقف استقال من دوره التاريخي ؟ أم السلطة باختلاف أشكالها أشاعت مفهوم " الخوف " لإقصاء المثقف ؟ ثمة تشابك بين السؤالين، بل ثمة علاقة مبطنة وضمنية. فالمثقف استقال من دوره ربما بفعل القمع والإقصاء الذي تمارسه السلطة باختلاف أشكالها عليه. وثمة ـ أيضا ـ عدم وعي من المثقف بأهمية السياق الحضاري و التاريخي الذي يعيشه. فإذا كان من واجبات المثقف الدفاع عن " كبريات الأفكار لتحررية لزمننا " كما ينادي بذلك بليخانوف في كتابه " الفن والحياة الاجتماعية"، إلا أنه من الضروري للمثقف قبل ذلك " صوغ رؤية نقدية ومستقبلية تحمل بديلا لوضع قائم"(18) بمعنى تحويل وجهة المجهر النقدي نحو القمع الداخلي والإرهاب المحلي الذي يمارس باسم الدين والوطنية والقومية و القبلية .. قبل أن نفتح نوافذنا على الإرهاب الأمريكي وضرب الحريات في غوانتانامو أو السجون السرية في أوربا وأبو غريب . نحن نحتاج " ثورة تقتلع طبائع الاستبداد من حياتنا ومن فكرنا. ولن تتحقق هذه الثورة إلا إذا شاعت ثقافة الحرية ثم تمكنت من النفوس بحيث يتكون على أرضنا: الإنسان ـ الفرد ـ الحر " (19) فالإنسان ـ الفرد ـ الحر، هو المطلب الإنساني الأسمى الذي به يتأسس الفعل الحضاري، الذي بدوره يدعم هذا الإنسان. والمؤسف حقا أن الإنسان في العالم النامي لا زال مقيدا ومغتربا ومحاصرا و مقموعا، ولم يدرك بعد مفهوم الحرية المنشود. لهذا على المثقف أن يكشف بؤر القمع والعقاب والإقصاء والتهميش وإشراك المثقف الآخر / المجاور والعالمي لوضع هذه الميكانيزمات على طاولة التشريح النقدية، بغرض إرجاعها إلى أسبابها وشروطها ونتائجها، ومن ثمة التنديد بها وإشهارها. مع ضرورة التأكيد على أنه لا بدّ من تشريك الفرد والمجتمع داخل القرية والقبيلة والمدينة والدولة والكيان، حتى يكون للمثقف كتلة دافعة ومساندة، وبالتالي ننتج " فردا جمعيا " يقف مع / بجانب " المثقف الجمعي ". د ـ التساؤل المستمر ونقد الراهن ثمة مسألة من الأهمية والخطورة بحيث يجب الانتباه إليها. و هذه المسألة هي تقديم الإجابات والحلول الجاهزة على الأسئلة والإشكاليات المطروحة. فالمثقف عادة لا يقدم الحلول الجاهزة، لأن الطرح عادة يبقى نسبيا وفق التحولات التاريخية والحضارية. ولكن المثقف يحارب " العقل الإطلاقي " و " الثوابت " و " المقدس " ويدافع عن الاختلاف والنقد والتساؤل وطرح الإشكال . ذلك أننا دول لا تبجل السؤال والنقد، بل تحترم الحلول الجاهزة والعقل الإطلاقي . هذا ما أشيع على الأقل رغم أن حضارتنا العربية والإسلامية والإفريقية ثرية بكتب الفلسفة والفكر والتاريخ. غير أن الآلة السياسية والفكر الغربي الداعي للكره والإقصاء و الاحتلال .. ساهم في إقصاء هذا الإرث بل و جفف منابعه، مما ولّد مثقفين جياعى للتساؤل والنقد. فطالما أننا لا نسأل فإننا لن نجيب. وطالما أننا نقدم الإجابات الجاهزة، فإن أسئلتنا مختلة ومغلفة بالإيديولوجيا، وليست بالشروط العلمية. إذن، لا بد من التساؤل حول مفاهيم الطبقة والعرق والجنس وإحالتها إلى شروطها. لا بد من التساؤل حول المسيحية والإسلام والوثنية ضمن سياقهم وتأثيرهم .. لا بد من مناقشة اللغات و اللهجات الإفريقية التي تفوق 2000 لغة، ومدى القدرة على جمعها أو تلخيصها.. لا بد من التساؤل حول طبيعة الأنظمة السياسية وخطورتها وما مدى قدرتها على الوفاء بوطنيتها.. لا بد من التساؤل حول توزيع الثروة والسلطة و السلاح .. لا بد من التساؤل حول مفهوم المثقف والسياسي ورجل الدين ( مسيحي، مسلم، يهودي، وثني..) وشيخ القبيلة .. .................... كلها أسئلة لا بد من وضعها على طاولة التشريح النقدية / العلمية، بهدف خلق تراكم إشكالي ومعرفي به يمكن فك شفرات القضايا المحلية والوطنية والقارية.. كما يخدم الإنسان ـ الفرد ـ الحر، ضمن الكيان الثقافي العربي الإفريقي. المهدي عثمان كاتب تونسي المصادر والمراجع: 1 ـ مطاع الصفدي:" المشروع النهضوي المختلف"، مجلة الفكر العربي المعاصرـ بيروت، العدد 56/57، سبتمبر/ أكتوبر 1988. 2 ـ كلاوس أوفه : مقال المجتمع المدني والنظام الاجتماعي، مجلة الثقافة العالمية، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت، العدد 107، يوليوـ أغسطس 2001. 3 ـ رضا الزواري: ملاحظات حول نظرية المجتمع ضد الدولة،مجلة الفكر العربي المعاصرـ بيروت، عدد 56/57، سبتمبر/ أكتوبر 1988 4 ـ على حسن المحجوب: حقوق الإنسان بين النظرية والواقع، مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت،المجلد 31، أفريل / ماي 2003. 5 ـ مطاع الصفدي، نفس المصدر السابق. 6 ـ المثقفون والقومية العربية:فريضة المراجعة، مجلة الآداب البيروتية، العدد 11/12 نوفمبر ـ ديسمبر 2003. 7 ـ عبد العزيز حسين الصاوي: أزمة المصير السوداني ـ مناقشات حول المجتمع والتاريخ والسياسة، مركز الدراسات السودانية، القاهرة 2004، ط2. 8 ـ مطاع الصفدي: نفس المصدر السابق. 9 ـ عادل عبد المهدي: الموسوعة الاقتصادية، دار ابن خلدون للطباعة والنشر، بيروت 1980، ط 1، ص 131. 10 ـ عبد الله بلقزيز: نهاية الداعية ـ الممكن والممتنع في أدوار المثقفين، المركز العربي، الدار البيضاء / بيروت 2000، ط 1، ص 37 11 ـ حمد أحمد الحاج: إشكالية اللغة والهوية ( دراسة وصفية تحليلية )، كتاب أوراق وأبحاث فعاليات المؤتمر الرابع والعشرين للأدباء و الكتاب العرب، ليبيا 2009. 12 ـ إدوارد سعيد: الدور العام للكتاب والمثقفين، مجلة الكرمل، مؤسسة الكرمل الثقافية، العدد 68، رام الله ـ فلسطين، صيف 2001. 13 ـ نفس المصدر السابق. 14ـ كلاوس أوفه: نفس المصدر السابق. 15 ـ خليل دراج: الشيخ التقليدي والمثقف الحديث، مجلة الكرمل، نفس المصدر السابق. 16ـ Michael Walzer : La Critique Social au XX Siecle, Ed : métalité, Paris, 1995, P : 32 - 33 17 ـ نفس المصدر السابق. 18 ـ د. محمد حافظ دياب: المثقف العربي والدولة ـ جدل الرمز والسلطة، منشورات اتحاد الكتاب العرب2004، ط 1، ص 56. 19 ـ مجلة قضايا و شهادات، العدد الأول، قبرص 1990، ص 198.