جريدة الدولية / العدد الثامن ـ الخميس ೨೮ أفريل 2011
أثناء الجدل الذي أنتجته التحولات السياسية في تونس بعد 14 جانفي، لاح بصيص من أمل تمخّض عن تكوين الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي. هذه الهيئة التي صاحب تكوينها الكثير من التشكيك والتخوين، خاصة على مستوى التمثيلية ومستوى سيطرة الأحزاب السياسية على مكوناتها. مع ذلك حصل تواطؤ متبادل بين الشارع السياسي التونسي من جهة، والهيئة من جهة أخرى، مفاده أن هذه الأخيرة وإن لم يحصل حولها الإجماع التام، إلا أنها مثلت خطوة هامة نحو تحقيق أهداف الثورة التونسية، وذلك باعتبارها الخطوة الأهم نحو انتخاب المجلس التأسيسي الذي كان أهمّ مطلب شعبيّ منذ الأسابيع الأولى للثورة.
غير أن التململ الحاصل حول تمثيليتها، مهّد لهيمنة حزبية وفق اعتبارات ضيّقة و مصلحية، يطغى عليها ذهنية المزايدات ومصلحة الأحزاب، عبر إغراق تركيبة الهيئة بعناصر تخدم هذا التوجه. ذلك أنه تم الترفيع في عدد أعضاء الهيئة من 71 إلى 130 عضوا.
وإن مرّ هذا الإغراق دون إثارة تذكر عدا بعض الأصوات الشاذة، إلا أنّ ما أقرته الهيئة يوم 24 أفريل بالمصادقة على المرسوم الخاص بتنظيم انتخابات المجلس التأسيسي، أثار الكثير من اللغط والحبر والجدل السياسي، وصل حدّ التخوين والتكفير والاحتقار.
وقد ذهب أحميدة النيفر وهو يعلن استقالته من الهيئة إلى التأكيد على " هيمنة جوّ حزبيّ استقطابي موجه يغلب عليه التفكير والعمل وفق اعتبارات ضيّقة واحتكام إلى المزايدات" وهذا كان جليا بعد الإعلان عن نظام الاقتراع على القائمات، الذي كشف أهميّة وخطورة العمل الذي قامت به الأحزاب لضرب المستقلين. بتعلّة أنّ نظام الاقتراع على الأشخاص من شأنه أن يدعم حضور المال السياسي، وبالتالي عودة أنصار حزب التجمع الدستوري الديمقراطي من النوافذ بعد أن خرجوا من الأبواب، هذا من ناحية.
و من ناحية أخرى يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أنّ التصويت على القوائم يقلل من نسبة الأصوات التي من المتوقع أن يظفر بها حزب النهضة، كما يدعي بعض " التقدميين".
إلا أن هذا الخيار على أهمية المخاوف التي طرحها مؤيدوه، لا يجعلنا نقتنع أنّ نظام التصويت على القوائم أكثر ديمقراطية وتمثيلية من نظام التصويت على الأفراد. رغم ما يتبجحون به من مصطلحات " المناصفة" و " التداول " و" أكبر البقايا"، التي تدافع عن النسب المهمشة من الذين لم يقع تمثيلهم.
إن المتأمل في هذا النظام، يقف عند الكثير من المزالق، لعلّ أهمها:
ـ خدمة الأحزاب لا غير، وإقصاء الطاقات المستقلة ذات الكفاءة، والتي لا يمكنها أن تتنظم في قائمات، باعتبار أنّ رئيس القائمة ـ دائما ـ له أوفر الحظوظ في الوصول إلى كرسيّ المجلس التأسيسي. وحتى لما يدعي مدّعي أنّ هذا النظام الانتخابي يخدم الأحزاب الصغرى، فتلك مصيبة أخرى. مصيبة تجعل مصير البلاد والعباد في يد تنظيمات لا تتوفر على مرجعيات سياسية، ولا تاريخ نضالي لها. كما أن وصولها إلى المجلس قد يكون مجرّد صدفة، باعتبار أنّ المواطن التونسي ـ وأمام جهله بهذه الأحزاب ورموزها ـ قد يجد نفسه مضطرا إلى أن يختار أحدى القوائم من باب المشاركة في العملية الانتخابية لا غير.
ـ من ناحية ثانية، يساهم هذا النظام الانتخابي في حشو أسماء في قوائم لتجميل المشهد السياسي، ذلك أن أغلب القائمات لا يمكن أن تظفر بأكثر من مقعدين. و هذا يجعل من الأحزاب تعمد إلى طرح قوائم تعول على اسمين أو ثلاثة أسماء في أحسن الأحوال وأهمها رئيس القائمة. أما بقية الأسماء فهي ديكورا سياسيا.
ـ إن فكرة المناصفة والتداول ـ على أهميتها ـ تعود بنا إلى عهد الوصاية على المرأة باعتبارها كائنا ناقصا تعوّل على الرجل لدفعها نحو المشاركة في الشأن العام. كما أن هذا الخيار يدعم دونيّة المرأة، ذلك أننا ـ وإذا استثنينا الحزب الديمقراطي التقدمي إذا شاءت أمينته العامة الترشح ـ سنجد كل المترشحات في مرتبة ثانية و رابعة و سادسة على القوائم، تكريسا لنظام باطرياركي لا زال حاضرا في ذهنية السياسي التونسي.
وحتى لو جاء اسمها على رأس القائمة، فإنّ الوضع داخل الأحزاب يجعل من تلك الفكرة مجرد نكتة. فالمرأة ليست ممثلة في المكاتب السياسية للأحزاب، وحتى المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل لا توجد امرأة داخل تركيبته، بل المثير للسخرية أن المكلف بالمرأة العاملة هو السيد المنصف اليعقوبي.
و حتى إن وجدت المرأة في القائمات الانتخابية، فإن وجودها سيكون مجرّد حشو وديكور سياسي.
إن من راهن على هذا الخيار للإبقاء على مكتسبات المرأة ضدّ الحركات الظلامية، سيكتشف أن تلك الحركات ستكون ممثلة بنسبة نساء أكثر من الأحزاب التقدمية، لأن تلك الأحزاب مرّت منذ الأيام الأولى للثورة نحو العمل الميداني والاستقطاب، فيما عولت الأحزاب الأخرى على التنظير والخلافات الإيديولوجية والمهاترات التي لا مجال لها الآن.
ـ إن نظام التصويت على القائمات سيجعل منها ( القائمات ) وكرا لاختفاء المشبوهين الذين ـ ربما ـ قد يمرون إلى المجلس. لهذا نفهم الآن المزايدات التي تدور حول التجمعيين من غير المسؤولين الحزبيين، لضمهم لهذا الحزب أو ذاك. وكلنا دهش لموقف حزب النهضة من إمكانية استيعاب أولئك التجمعيين.
حيث أعلن شيخ الحركة السيد راشد الغنوشي لقناة الجزيرة القطرية، أنه لا مانع لحركته من استقطاب التجمعيين، ونفس الشيء صرح به عضو المكتب التنفيذي للحزب الديمقراطي التقدمي أحمد بو عزي، وربما يتبنى نفس الفكرة عديد الأحزاب الأخرى، لما للتجمع المنحل من ثقل كان يمثله.
ـ إن نظام التصويت على القائمات من الخطورة بحيث قد يجعل الفعل الانتخابي مجرّد حركة لا معنى لها عند أغلب الشعب التونسي الذي لا يعرف لهذه الأحزاب تاريخا أو برنامجا، عدا عدد من الأحزاب لا يتعدى عدد أصابع اليد الواحدة. ومن ادّعى عكس ذلك، فإنه يقصد الطبقة المسيّسة . و حتّى لو ذهبنا مع بعض الأحزاب إلى تأجيل الانتخابات، فإنّ تأجيلها ثلاثة أو أربعة أشهر، لا يمكّن المواطن من فهم هذه الأحزاب والإطلاع على برامجها، وحتى على مكتبها السياسي.
ـ إنّ نظام التصويت على القائمات سيجعل من الممكن وصول أحزاب ظلامية ورجعية إلى المجلس التأسيسي بحجم يضع المشهد السياسي التونسي في مأزق يصعب الخروج منه، وقد يقودنا هذا المأزق إلى مشهد دموي على غرار ما حدث في ديمقراطيات ناشئة ـ حينها ـ مثل الجزائر .
فحزب كالنهضة ـ مثلا ـ وهو أهم الأحزاب السياسية الفاعلة على الساحة الآن ـ من حيث الاستقطاب والحضور ـ قد يلجأ إلى الترشح عبر القائمات وعبر الأشخاص. ذلك أنه من الممكن أن تنحو هذا المنحى في عديد الجهات، في حين أنه من المستبعد ـ بل من المستحيل ـ أن يترشح حزب بقائمة حزبية وأخرى مستقلة.
إنّ الإصرار على نظام التصويت على القائمات، يجعلنا نتساءل عن المساومات والمزايدات التي حصلت في الهيئة العليا. حتى و إن كان الاتفاق على ذلك المرسوم بالإجماع. و حتى وإن كرر أكثر من عضو أن دور الهيئة استشاريّ لا غير. فلماذا لا يقع عرض هذا المشروع على الاستفتاء لفك الاعتراف وكسب مزيدا من الشرعية؟
أما ما يثار حول شروط التصويت وطرقها، فهي مسألة مفرغة من محتواها. و يمكن بأمر أن تتشكّل هيئة وقتية لتنظيم الاستفتاء. و إن كانت هذه الهيئة الوقتيّة " غير شرعيّة "، فإنّ ما سينتج عن الاستفتاء سيكون شرعيا.
ثم لماذا قبلنا بالهيئة العليا وقد تشكلت عن طريق مرسوم رئاسيّ، ولا نقبل هيئة انتخابات، لتنظيم الاستفتاء بمرسوم مماثل؟
وهذا التناقض ما أشار إليه أحميدة النيفر بقوله: " أدعو الحكومة المؤقتة إلى استشارة شعبية وتشاور مع لجنة حكماء مستقلين لإقرار خيار أنسب لمستقبل البلاد يقيها الوقوع من جديد في براثن دكتاتورية أطراف ترفض التعدد و تمقت الاختلاف "
إن الفصل 16 من مرسوم انتخابات المجلس التأسيسي، لم يرق إلى مستوى طموحات الشعب التونسي، الذي بقي مذهولا وغير مستوعب لطريقة الاقتراع على القائمات، خاصة لما تعمد أحد البرامج التلفزية إلى توضيح طرق احتساب الأصوات التي تستدعي من المواطن التونسي أن يكونا ملما إلماما كاملا ودقيقا بمجريات الأحداث و بالخارطة السياسية التونسية التي ما زالت إلى الآن ضبابية وغير مكتملة.
إذن ننتظر 24 جويلية لتكتشف هل قادتْنا الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي إلى الأمان أم إلى الهاوية؟