مرحبا بك في مملكة الورد

مرحبا بكم في مملكة الورد

صديقكم المهدي عثمان

قصور الساف / تونس



الاثنين، 17 مايو 2010

"ليس الماء وحده جوابا عن العطش" لأدونيس

تمجيد الموت
في " ليسَ الماءُ وحدَه جوابا عن العَطش " لأدونيس



ليس الماء وحده جوابا عن العطش *، مثلما نعرف ـ تماما ـ لأنّ الحياة وحدها ليْست جوابا عن الموت. ألم يقل شاعر ذات عصر جاهليّ:
ليس من مات فاسْتراح بميْت
إنمــا الميّت ميّت الأحيـــــــاء
الموت هنا، هو العطش، أو تحديدا ـ ونحن نقلّب التراكيب ـ العطش هنا هــــو الموت.
الموت بمعناه المادي / البيولوجي، والموت بمعناه الرمزي .
هكذا احتفل أدونيس بالموت في كتابه هذا ونحن نقرأ هذا العمل الرائع الصادر عن مجلّة " دبي الثقافيّة "، إنما نتشيّع لهذا الجهد الثقافي الداعي لرفض مراكمة الموت الثقافي في وطننا العربي .بالمثل ترانا نحفر في هذا العمل الأخير لأدونيس حفرا أركيولوجيا لنتعثّر على عتبات السطور والأفكار والسواد والبياض، على معنى الموت الحاضر حضورا لافتا في " ليْس الماء وحده جوابا على العطش " ... موت حاضر بالمثل في واقعنا العربي السياسي والثقافي، عمد أدونيس إلى رصده وهو يتتبّع أسماء الدول و المدن التي مرّ عليها أو مرّت به : اليمن ـ أغادير ـ الإسكندرية ـ فلسطين ـ قرطبة ـ عمان ...
بهذا يثبت أدونيس أنه شاعر كونيّ يعالج قضايا وجوديّة ـ إنسانية مطلقة ( مثل الموت ) وهو مع ذلك شاعر خصوصيّ ملتصق بالطين :
أقرأ الواقع وأتساءل حائرا
أهو الشجرة
أم الريح التي تداعبها ؟
الواقع ؟ أحلام في ثياب العمل
. ص117
ليس الموت وحده يقضم تلابيب المعاني هنا، ولكنه المعنى الأكثر جلاء وانتشارا والأكثر قدرة على أنْ يفتكّ دهشتنا. الآن وهنا في أوطاننا ترانا أقرب لموت آثر أنْ ينبت في تربة أراضينا المالحة، في العراق وفلسطين :
" طاب نومكم في أحضان الشظايا " ص76
وفي أحضان الآلة العسكريّة الهمجيّة في زمن العولمة و" الحداثات " المختلفة والأقطاب أو القطب الأوحد ...
وكانت الحداثة خاتما
يتلألأ في عالم
يتحوّل إلى إصبع إلكترونيّة
في يد نيويورك
ص 17
مع ذلك للموت أشكاله الأخرى الرمزيّة و المعرفيّة. موت خيّم على سماء عالمنا العربيّ وشرقنا العربيّ ومدننا و قرانا :
تُرى ألن تعرف سماء العرب كيْف تُظلّل شيئا آخر
لا يُظلل القتل ؟
ص 60
يقتلنا السلاح المسْتورَد والحروب المسْتوردة والحكومات المسْتوردة والأفكار المسْتوردة والقوانين المسْتوردة ... لهذا تبنّى المواطن العربيّ فكرة الموت ومجّدها . حبا في الموت حينا ... نقمة في الحياة أحيانا ... " شهادة " أحيانا أخرى ... انتحارا ... تدميرا ... تمجيدا ...

و مَن أولئك الذين يموتون لا لشيء
إلا لتمجيد الموت
ص 34

حتّى صار الموت صناعة في يد الإيديولوجيات المختلفة دينيّة وسياسيّة و ثقافيّة.. وبدا وكأنّ الموت أكسير الحياة أو هو النافذة التي نطلّ منها على مشْهديّة الخلود :
بدا الموت كأنه السحر الذي يفتح الأبواب المغلقة
وبدت الحياة
كأنها غيوم من البكاء
ص40
إنه التوادد والسجال بين مفهومين تواجـدا وترافقا وتضادا منـذ الطعام الأول
" الذي هيأته حواء لآدم ".
أدونيس مجّد الموت وأعلاه رغم انتصاره للحياة وللحبّ وللحلم، وهو يقيم منذ الكلمات الأولى في الشعر، وبه يؤسس عالمه الخاص وسماءه الخاصة التي تدثره وتحمي " طيور أفكاره " .... إننا لا نكاد نعرف الأشياء إلا بأضدادها.
أليس بوسعنا الحديث عن القمع والاسْتبداد لما نرنو إلى الحريّة ؟
أليس بوسْعنا الحديث عن الحرب والخراب لما نعرّف السلم ؟
أليس بوسْعنا الحديث عن القبح لما نعرّف الجمال ؟
والعطش أليس جوابا عن الماء ؟
صحيح أنه ليس الجواب الوحيد، لكنه أحد الإجابات الممكنة، مثلما كان الموت هو أحد الأجوبة الممكنة عن الحياة / البقاء:
" ما أشْقى وضوحك أيها الموت " ص 75

ولأنّ أدونيس لم يكن يقيم على أرض هلاميّة وافتراضيّة، بل على أرض
" يحسن رؤية نفسه ويُحْسن معرفتها " لهذا كان أقرب إلى الموت القابع في الشوارع والأزقة والمنعطفات وبين الأجساد. وكيف تتحوّل هذه الأجساد في شوارع بغداد والأحياء الفلسطينيّة إلى خوذات تقرفص على رؤوس العدم / الفناء . ألم يتساءل أدونيس :
لماذا يبدو " الجسم " في الثقافة العربيّة ـ الإسلاميّة مرذولا ؟ ولماذا " يُدمّر " يوميّا باسْتخفاف واحتقار، وعلى نحن منتظم بشكل أو آخر ؟ ص 44
إننا فعلا أمام حالة لتمجيد الموت في عالمنا العربيّ والإسلامي، اسْتطاع أدونيس أنْ يلتقطها بذكاء وحنكة العارف بالسندات . وأثْبت أدونيس ـ وهو لا يحتاج إلى إثبات من شخصي ـ أنه يعوّل على واقعه وفكّ شفراته في تعامله مع اللغة ومع النصّ، وأنه يفنّد زعم من يدّعي أنّ نصوص أدونيس هلاميّة وزئبقيّة ولا إمكانية لتنْزيلها إلى أرض الواقع .
فأدونيس في " ليس الماء وحده جوابا عن العطش "، وضع إصبعه على عالمنا التواق للارتواء والفكاك من حالة العطش التي يعيشها،ولكن عطش ليْس للماء فحسْب ، بل للحياة والحبّ والجمال والحريّة .
" فالنار في كلّ صوْب. أين، إذن، سمنْدَلاتُ الحريّة،
تلك التي تحوّل النار إلى ماء
" ص99